رؤية جديدة السودان

رؤية جديدة السودان

قناة رؤية جديدة
أهم الأخبار

✍ أحلام محمد الفكي : السرطان الأسود ؛ الفساد يُنْهِك الجسد ويُجَمد مسيرة التنمية

تطالعنا الصحف والمنابر يوماً بعد يوم، وتتواتر الأنباء والتقارير، لتؤكد أن هناك فساداً متفشياً كالوباء في شرايين بعض المؤسسات وأن هناك مسؤولين يستغلون نفوذهم وسلطتهم لا لخدمة الوطن،

بل لتحقيق مصالح شخصية ضيقة. هذه الظاهرة ليست مجرد سقطات فردية بل هي الخطر الأكبر الذي يهدد بقاء الدولة وكرامة المواطن. الفساد يعطّل عجلة التنمية ويحكم على المستقبل بالجمود.

في رحاب هذا الوطن المعطاء، السودان حيث تتماوج الخيرات وتتنوع الثروات تتربص به آفة خبيثة تتسلل كالموت البطئ إلى شرايينه، فتُجفف منابع التنمية وتُجمد آمال التقدم. إنه الفساد، هذا السرطان الذي يُنهك جسد المجتمع والدولة، ويُحيل الأحلام إلى سراب، ويحول الموارد الوفيرة إلى جيوب ضيقة ليظل السودان يترنح تحت وطأة الفقر رغم كل مقومات العيش الكريم. الفساد ليس مجرد رشوة عابرة أو خيانة فردية، بل هو منظومة متكاملة تهدف إلى تقويض أسس الدولة ونهب مقدراتها.

لقد تجاوز الفساد كونه آفة اقتصادية واجتماعية ليصبح بؤرة التوتر الرئيسة ومُحفّزاً مباشراً للحرب والصراعات التي عصفت بالبلاد. فالصراع على الموارد المنهوبة والسلطة المستباحة هو وقود النزاعات المسلحة التي دمّرت نسيجنا الوطني، جاعلاً إياه عنصراً أساسياً في تغذية الاقتتال. يتجلى تأثير الفساد المدمر في صور لا تُحصى:

إن كل دولار يُسْرَقُ من أموال الشعب هو فرصة تعليم ضائعة، أو مستشفى لم يُبْنَ، أو طريق لم يُعبَد. إنه ضريبة قاسية يدفعها الفقير ليعيش الثري الفاسد. وعندما يصبح الفاسد في مأمن، تنهار الثقة بين المواطن والدولة، وتتبخر الشرعية السياسية، وتتعمق الهوة الطبقية، حيث يزداد الفقير فقراً ويصبح الغني الفاسد أكثر بطشاً. إن الفساد هو انتهاك صارخ لحقوق الإنسان لأنه يسرق حق المواطن في دولة نزيهة وعيش كريم. وتظل التنمية محاصَرة بالفساد الإداري والمالي، وهو العدو الأكبر للخطط التنموية؛ فهو يُبَطِّئُ الإجراءات، ويُعَرقلُ القرارات، ويُحوِّلُ تركيز القيادات من الإنتاج والإصلاح إلى صفقات تحت الطاولة، مما يجعل السودان يتذيل قوائم التنمية العالمية رغم إمكاناته الهائلة. يضاف إلى ذلك النزيف الحاد والمستمر لهجرة الكفاءات والخبرات العالية في السنوات الأخيرة. فعندما يرى أصحاب الكفاءة والمهارة أن النجاح يُبنى على المحسوبية والولاء وليس على الجدارة والجهد، يختارون الهجرة بعيداً عن الوطن، بحثاً عن بيئات تُقَدّرُ النزاهة والعمل، ليخسر السودان بذلك أهم ثرواته العقول المخلصة.

لا يكفي أن نشكو من الفساد، بل يجب أن ننتقل إلى مرحلة العلاج الجذري والفعال، فداء كهذا يتطلب جراحة دقيقة وعلاجاً وقائياً مستمراً. إن مكافحة الفساد ليست خياراً تكميلياً، بل هي أساس أي مشروع وطني للنهوض. إن المعالجة تتطلب عدة مسارات متوازية: أولها تفعيل سيف القانون البَتَّار (المساءلة الفورية)، بلا تساهل ولا حصانة لأي كان، وإجراء محاكمات عادلة وسريعة تُعيدُ الأموال المنهوبة،

وتطبيق قاعدة:

"من أين لك هذا؟" على كل مسؤول. وثانيها إرساء الشفافية والرقابة

(العين الساهرة) إذ لا يزدهر الفساد إلا في الظلام، وهذا يتطلب إتاحة المعلومات للجمهور وتفعيل دور الأجهزة الرقابية باستقلالية كاملة. وثالثها تقوية المؤسسات (الحوكمة الرشيدة)، بإصلاح الجهاز الإداري وتطبيق مبدأ "الرجل المناسب في المكان المناسب" بعيداً عن أي انتماءات، وتقليل البيروقراطية. ورابعها تثقيف المجتمع (الحصانة الأخلاقية)، وتعزيز الوعي بأضرار الفساد وبناء ثقافة ترفض الفاسد وتنبذه وتلفظه اجتماعياً، مع توفير الحماية القانونية الكاملة لكاشفي الفساد.

لِنرفع لواء النزاهة! إن معركة السودان الحقيقية ليست مع الجفاف أو قلة الموارد، بل هي معركة إرادة ضد أيدي العابثين وسارقي قوت الشعب. لن يقوم صرح التنمية إلا على قواعد العدل والنزاهة التي لا تتهاوى. إننا اليوم أمام خيارين مصيريين: إما أن نستسلم لهذا الداء الخبيث، فنغرق في الفوضى والفقر وضياع الدولة أكثر مما نحن فيه، أو أن نتوحد صفاً واحداً، شعباً وحكومة، لنشعل قناديل النزاهة والشفافية، وننتزع حق الأجيال القادمة في وطن ينعم بالخير والازدهار. لنجعل من كل مواطن سوداني رقيباً، ومن كل مصلحة عامة، خطاً أحمر لا يُجتَاز، ومن النزاهة معياراً أوحد للقيادة والعمل