رؤية جديدة السودان

✍ إبراهيم شقلاوي : وجه الحقيقة خالد المبارك ؛ رجل أكبر من الرواية المخزية

-

أدرك تمامًا، وأنا أكتب هذه السطور، أن ما أتناوله يمسّ وجدان أسرة مفجوعة، ويُعيد فتح جراح لم تندمل بعد. وأتفهم أن الحديث عن ميت، في ظروف غامضة وموجعة، أمر محفوف بالحساسية. غير أن ما بيني وبين الراحل العميد شرطة معاش خالد المبارك مصطفى من معرفة قديمة، وصِلات إنسانية، ووشائج زمالة جمعتنا منذ أيام الجامعة، يجعل من الصمت خيانة... ومن السكوت على ما أعرفه عنه تقصيرًا لا يليق.

كتبت لا من باب الفضول، ولا للسبق، بل وفاءً لرجل عرفته عن قرب في رصانته، في جديته، في انضباطه الذي كان جزءًا من تركيبته الأخلاقية، لا مجرد سلوك مؤقت فرضته عليه المهنة. ومنذ أن كنا طلاباً، لم يكن خالد شخصًا عاديًا. كان يسبق عمره بالتفكير، ويثقل حضوره بالهيبة الهادئة. لم يكن سياسيًا، ولا متحزبًا، لكنه كان يملك بوصلة داخلية دقيقة، تحركه نحو ما يراه صوابًا، دون ضجيج.

اختار بعد تخرجه أن يلتحق بكلية الشرطة، لا حبًا في السلطة، بل انتماءً إلى فكرة "النظام" والانضباط والواجب. ووجد في العمل النظامي معنى لحياته، وسعى فيه بتجرد كامل. وقد تدرج في الرتب حتى بلغ موقعه الحساس قائدا داخل الشرطة الأمنية، وهي الجهة المعنية بمتابعة وتقييم الأداء داخل مؤسسة الشرطة نفسها. وظيفة صعبة، وتقتضي صلابة أخلاقية لا تتوافر لكل أحد.

لقد احترم خالد المؤسسة التي انتمى إليها، وكان مدافعًا عنها بما يليق بقسم أدّاه لا بالكلمات، بل بالأفعال. ولم يكن عدواً لأحد، لكنه، بطبيعته، لم يكن يساوم على الانضباط أو النزاهة. وقد تكون هذه الصرامة نفسها قد أورثته خصومات صامتة لم يظهرها، لكنه واجهها بشموخ وعزة نفس وكبرياء لا يلين .

اليوم، ومع رحيله المفاجئ والمؤلم، في حادث لا تزال ملابساته غامضة، تبرز الحاجة إلى قراءة ما جرى، كعلامة على ما يمكن أن يحدث حين تنهار الثقة داخل المؤسسة، أو حين تُترك المواقف المشرفة بلا حماية. صحيح أن خالد لم يُعرف بانتماء سياسي، ولم يكن محسوبًا على تيار أو جهة، لكن موقعه الرقابي جعله ، شاهداً على الكثير، وربما هدفاً مؤجلاً في ذاكرة الثأر والمؤسسي أو الشخصي.

وفي خضم هذا كله، لا بد من أن أؤكد على أن حديثي لا ينتقص من احترامي الكامل لمؤسسة الشرطة السودانية، التي تبقى، رغم كل ما أصابها، إحدى ركائز الدولة الوطنية العادلة . لكن الأفراد لا يجب أن يُتركوا فريسة للشكوك، ولا أن تختتم سيرتهم بكلمات مخزية عن "انتحار" مشكوك فيه، دون تحقيق مهني جاد يُنصفهم، أو على الأقل يحفظ كرامتهم بعد الرحيل.

في هذا السياق، فإن استهداف خالد المبارك لا ينبغي قراءته كمجرد حادث، بل كاحتمال مرجّح لثأر مؤجل، أو حسابات قديمة أعادتها لحظة سيولة أمنية، وتصدّع في الضوابط التي كانت تحكم العلاقة بين الرتب، والمراكز، والمسؤوليات. ولعل الأهم، أن هذا النوع من الاستهداف لا يُدار وفق آليات الصدام العلني، بل غالباً ما يأتي في صورة محكمة، تُغلّف الحدث بالاحتمالات النفسية، وتلبسه ثوب "الانتحار"، وتُغلق الملف على عجل دون تحقيق.

وقوع الحادث داخل جامعة الرباط، ذات الرمزية الأكاديمية والانضباط المؤسسي، يضفي على الحدث أبعادًا مؤلمة. فخالد المبارك لم يكن مجرد موظف، بل ضابط مسؤول عن امن الجامعة مشهود له بالنزاهة والصرامة. وموته الغامض يعكس خللاً أعمق في منظومة الثقة داخل الأجهزة والمؤسسة ، ويثير تساؤلات عن ربما ثأر قديم ضد من أدوا واجبهم الرقابي بضمير حي.

في حالة خالد المبارك، يبدو أن مسيرة الانضباط الطويلة انتهت بطلقات نارية ، قيل إنها من سلاحه الشخصي، وسط روايات متضاربة، لم تقنع أهله، ولا زملاءه، ولا حتى الرأي العام. وبين رواية الانتحار المفاجئ، ورواية القتل المغلّف، تبقى الحقيقة حبيسة دائرة مظلمة من الغموض ، والتقاعس المؤسسي عن كشف الملابسات لذلك دعوتنا تظل عبر #وجه_الحقيقة لأهمية التحقيق الجنائي المنصف.

لقد مضى خالد إلى ربه، لكن قضيته يجب أن تبقى. لأنها ببساطة لا تخص شخصاً واحداً، بل تمسّ جوهر ما تبقّى من مفهوم "الدولة العادلة " في السودان. حين يُقتل صوت الضمير داخل الأجهزة، وتُمحى بصمة الرقابة من السجلات، وتُختزل المأساة في تقرير طبيب شرعي، فإن هذا ليس موت رجل فحسب، بل سقوط لبنية كاملة لم تعد تقوى على حماية أو حتى تفسير مصائر رجالها.

إن من واجبنا، أفراداً ومجتمعاً، أن نقف عند هذه الحالة لا بدافع العاطفة ، بل من باب المسؤولية. لأن سكوتنا عن رجل مثل خالد المبارك، هو سكوت عن النموذج الذي نحتاج إليه في بناء البلد ، وسكوت عن الفكرة التي تموت مرتين إذا لم تُحفظ بالعادلة او بالإجراءات الصادقة.

رحم الله الأخ العميد خالد واسكنه فسيح جناته اللهم تقبله شهيدا شفيعا لوالديه وأهله ومحبيه انا لله وانا اليه راجعون.