رؤية جديدة السودان

✍ د. ماجد السر عثمان : مراسي الخرطوم ... تشرق من بين الأنقاض (1)

-

"إن الخراب لا يأتي دفعةً واحدة... بل يتسلل إلى الحياة كما يتسلل الليل، حتى إذا أظلمت المدينة تذكّرنا كم كنا غافلين عن الضوء."

من رأى ليس كمن سمع...

عدت إلى الخرطوم بعد غيابٍ قسري دام قرابة عامين، فرضته الحرب التي اقتلعتنا من ترابنا، كما تُقتلع الأشجار من جذورها، وتركَتنا نُطارد الوطن في المنافي، نحمله معنا في الحقيبة والقلب، ونحلم بالعودة إليه كما يحلم الأسير بالضوء.

تركتُها حين كانت يانعة، خضراء، تفوح من حدائقها الغنّاء روائح الزهور والفل والياسمين. كانت شوارعها تضج بالحياة، بالحركة، بالشباب... الكل يذهب ويجيء، هذا يسعى نحو هدفٍ وكله أمل، وذاك يعود مرفوع الرأس، يتمخطر فرحًا بإنجازٍ أتمّه أو حُلمٍ اقترب.

كانت الخرطوم مدينة الأحلام الصغيرة والكبيرة:

عروس تُجري بروفات فستانها الأبيض بانتظار يوم الفرح القريب،

وطلاب يُنهون استعداداتهم لدخول الامتحانات،

وأسر تُرتب مشاريعها، وتُزيّن جدران الغد بالأمل.

لكن...

كان هناك "نمرود" ماجن، يتربص بالحياة من خلف ستار دخان، ينظر بعيني شيطان، ويكشّر عن أنيابٍ اعتادت على أكل لحم الأبرياء.

كان بانتظار لحظة الإشارة... ليطفئ النور، ويجرف المدينة إلى جحيمه.

عدتُ...

لأجد آثار الجريمة:

بيوتاً مهدمة، أرواحًا مشرّدة، جراحًا لا تُحصى،

وبقايا جيفٍ شيطانية، وأرضًا امتصت من البارود ما يكفي لتصمت الزهور.

لكن الخرطوم... كانت تُصِرّ أن تبقى.

كانت تنفض عن وجهها غبار الرماد وتقول: "أنا هنا... لم أمت بعد."

سأكتب، إن شاء الله، عن الفجيعة... عن الخيانة التي فاقت التصور،

عن آثار الدمار، وعن صمود أهلها الذين آمنوا أن الحياة لا تُؤخذ إلا عنوة.

سأكتب عن الأمل... عن التحدي الذي يسكن العيون،

عن عزيمة إعادة الإعمار، ورغبة النهوض من تحت الرماد.

هذه ستكون مجموعة مقالات،

بعنوان جامع: "الخرطوم... تشرق من بين الأنقاض"