رؤية جديدة السودان

✍ د. الشاذلي عبد اللطيف : هيئة النزاهة والشفافية من الفكرة إلى الفاعلية ؛ رؤية نحو أقوى هيئة رقابية في حكومة الأمل المدنية

-

الدولة العادلة لا تُبنى فقط بالقوانين، بل بمن يجرؤون على تطبيقها دون خوف أو استثناء.

في مقالاتي السابقة، ومنها "إدارة الفساد: حين يصبح الانهيار خطة معتمدة" و**"هيئة النزاهة: حين تصبح الرقابة واجهة لا وظيفة"**، حاولت تفكيك البنية العميقة للفساد المؤسسي، الذي لا يعيش في العتمة فقط، بل يختبئ أحيانًا في الإجراءات، ويُمرّر عبر الأختام الرسمية.

ومن هنا، تأتي أهمية القرار الذي اتخذته حكومة الأمل المدنية بإنشاء هيئة النزاهة والشفافية، كخطوة مفصلية في مسار استعادة ثقة المواطن، وبناء مؤسسات لا تكتفي بالإدارة، بل تمارس الرقابة.

وبهذه المناسبة، أتوجّه بجزيل الشكر والتقدير إلى سعادة رئيس مجلس الوزراء، الذي بادر بتبنّي هذا المشروع، إدراكًا منه أن النزاهة لا تُطلب من المواطن فقط، بل تبدأ من أعلى هرم الدولة، وتُترجم إلى هيئات مستقلة تمتلك أدوات الفعل لا أدوات التجميل.

لكن التأسيس وحده لا يكفي.

فأي هيئة رقابية، مهما حُسن تصميمها، ستظل محدودة الأثر إن لم تُمنح الصلاحيات الكافية، والاستقلال الفعلي، والحصانة من التدخلات. ومن هنا، أضع هذه الرؤية المقترحة لبناء أقوى هيئة رقابية مستقلة في البلاد، مستلهمة من نماذج ناجحة، دون أن تنسلخ عن خصوصيتنا المؤسسية.

أولًا: الصلاحيات الجوهرية التي يجب أن تُمنح للهيئة

كي تؤدي هيئة النزاهة والشفافية دورها الحقيقي، لا بد أن تُمنح صلاحيات قوية ونافذة، منها:

1. صلاحيات الضبط والتحقيق

فتح التحقيقات في قضايا الفساد دون الحاجة إلى إذن مسبق.

دخول المقرات الحكومية وتفتيش الملفات والأنظمة.

توقيف المشتبه بهم مؤقتًا بالتنسيق مع القضاء.

2. الإحالة المباشرة للقضاء

الحق في رفع القضايا مباشرة إلى النيابة العامة أو الجهات القضائية.

إصدار تقارير إحالة قانونية موثّقة تغني عن الإجراءات البيروقراطية المعطِّلة.

3. الوصول غير المشروط للمعلومات

الاطلاع على العقود، والمشتريات، والتعيينات، وبيانات الذمة المالية.

رفض أي استثناء أو حجب تحت مسمى "السرية الوظيفية" أو "الحصانة الإدارية".

4. تجميد الأموال والممتلكات مؤقتًا

التوصية الفورية بتجميد الأصول في حالات الاشتباه الجاد.

التعاون المباشر مع البنك المركزي والجهات المالية المختصة.

5. التحقيق في تضخم الثروات وتضارب المصالح

إلزام القيادات الإدارية بتقديم إقرارات الذمة المالية.

فتح التحقيق في كل حالة نمو مالي غير مبرر أثناء الخدمة العامة.

6. وقف التعيينات غير النزيهة

مراجعة التعيينات التي تخالف معايير الكفاءة أو تتم عبر المحسوبية.

إصدار توصيات بالإلغاء وفتح تحقيق إداري حول خلفيات القرار.

ثانيًا: توصيات هيكلية وتشريعية داعمة

لكي تنجح الهيئة في أداء مهامها، لا بد من بيئة مؤسسية وتشريعية متماسكة، تقوم على ما يلي:

1. استقلال إداري وتمويلي تام

أن تُقرّ موازنتها مباشرة من البرلمان.

أن يُنتخب رئيسها من جهة تشريعية وبآلية شفافة.

2. حماية شاملة للمبلّغين والشهود

توفير ضمانات قانونية ووظيفية لكل من يبلّغ عن الفساد.

إنشاء قنوات آمنة وسرّية للتبليغ داخل الهيئة.

3. شفافية تقارير الأداء

نشر تقرير سنوي مفصّل للرأي العام، لا يمر عبر بوابة سياسية.

يتضمن قضايا مغلقة ومفتوحة، ومؤشرات عن تعاون المؤسسات مع الهيئة.

4. التعاون مع الإعلام والمجتمع المدني

دعم الصحافة الاستقصائية والمبادرات المدنية الرقابية.

إشراك الجامعات والنقابات في بناء ثقافة وطنية للنزاهة.

من الرقابة إلى الضمير المؤسسي

لا تُقاس قيمة الدولة فقط بما تُقرّه من قوانين، بل بما تفعّله من آليات للمساءلة.

وإن هيئة النزاهة والشفافية، إذا مُنحت ما تستحقه من صلاحيات وهيبة، يمكن أن تتحول من "جهاز إداري" إلى "مرجعية وطنية"، تحرس الوظيفة العامة من الاستغلال، وتعيد للمواطن إيمانه بأن الدولة لا تحمي الفاسدين… بل تحاسبهم.

إن هذه الهيئة، إذا نجحت، لن ترفع فقط سقف النزاهة، بل ستُرسي مبدأً بسيطًا وخالدًا:

لا أحد فوق المحاسبة.

ولا مؤسسة أقوى من القانون.

ولا مستقبل لدولة لا تحمي شفافيتها من نفسها.