رؤية جديدة السودان

✍ د. عبد السلام محمد خير : أسرار العيون والملكية الفكرية بمركز راشد دياب

-

صفحات من كتاب (صحافيون وإعلاميون في الخاطر) تحت الطبع - 2016م

مشهد الخرطوم بالليل يبدو غريباً لمن إنقطع عنها بحجة توخي الإبتعاد أوبذريعة المواصلات وزحمة الناس وتحري السلامة وستر الحال وغير ذلك لمن يتأمل حوله والعقد الثاني من الألفية الثالثة ينتصف ومنا من لا يبالي- إلى أين؟!.. إنه مشهد يثير الخواطر والذكريات والشجون، وفيه ما يمسح بأعجوبة كآبة النفوس التى أرهقها سباق النهار وعنته المصنوع والمتكرر بلا رحمة، حتى إنى سرحت مع مشاهداتى على إمتداد شارع النيل وإلى أن وصلت مكان الإحتفالية لأفاجأ بأناس فى قمة الإبتهاج!.. فتساءلت هل هؤلاء قادمون من خرطوم النهار ذاك الذي توارى؟!.

تذكرت مُدُناً أثيرة زرتها وهى تعالج أحزانها وتخرج للعالم وكأنها بلا جراح.. فعلت ذلك الكويت وهى تحتفل كعاصمة للثقافة العربية عام 2001 فقلت لعل الثقافة هي التى تفعل ذلك ، تخرج الناس من كمائن الأحزان المدبرة إلى آفاق الأمل المنداح (على الهبشة).. هذا ما حدث فعلا فى هذه الأمسية بإحدى مراكزنا الثقافية التى آلت على نفسها تجميل الأماسى بإبداعات الثقافة، بقيت لها وزارة أم ذهبت، ليحمد للمنتديات أنها بقيت كأصل للثقافة وان تعددت القنوات والمواعين.. وجدتنى أجاور أحد رموز الثقافة بانتظار إزاحة الستارة فحادثته فى ذلك فتبسم وما أخفي أن فى الأمر ما يحير فعلا، ومنه أن تغيب وزارة الثقافة فى بلد يشهد له العالم بالكفاءة الثقافية ونفاذ مثقفيها عالميا ومنهم من يتم تكريمه اليوم ، هاهنا.

مشهد الرموز يبدو طاغيا بألقه..ثلاثة رموز ثقافية كانوا على الباب يستقبلون الرواد، الدكتور راشد دياب صاحب الدار والدكتور كامل إدريس المحتفى به والدكتور كمال هاشم صاحب المعرض المقام بين دهشة الحضور!.. إن جراحا متميزا متخصصا فى طب العيون هو الذى رسم لوحات المعرض المقام وعنوانه شديد الايحاء(إلهام اللون).. ماذا هناك؟!، وأي شىء هو هذا التميز الذى حبى به الله تعالى أهل السودان؟..حاولت ان أفهم ما قاله طبيب العيون هذا عبر لوحات شاهقة (فيها كلام كتير) نحسه قبل أن نقرأه.. تحلقنا حول إحدى اللوحات فى شكل عصف ذهنى لمحاولة الفهم فارتحت لتحليل يقول إن (الروح السودانية مغموسة فى كل اللوحات وقد جاءت تميل الى التجريد فى خلطة بارعة من ثقافات إسلامية وإفريقية ونوبية تجسدها الإيحاءات والثراء اللونى والضوئى)..كلنا لاحظ ماهو شاخص بين يدي لوحات المعرض، النخلة والطين والجلابية والشال وشلوخ الحبوبات ووشم الحسان وعصاة تبدو أكثر إيحاء.. راقنى تفسير للأستاذ الصاوى يوسف الذى كشف غموضا آخر ليخبرنا أن أغلب أعمال دكتور كمال هاشم تحتفي بالإنسان وبما صنع الإنسان.. قلت له بيني وبين نفسي(أصبت)..فهذا ما كنت(أحسه).

حاولت فك طلاسم بعض اللوحات بنفسى، لم أفلح وكنت على عجل فتوسلت لمبدعها الجراح ليشرح ويشرح فآثر أن يترك المعنى فى(بطن الجراح) واستعاض عن كشف أسرار اللوحات بحديث عن صلة العيون بسحر الألوان!.. فاجأنى بأنه وهو طالب بالجامعة إهتدى لسر الخالق جل وعلا المودع فى العيون، وذلك من خلال تأمله فى إيحاءات لوحة صامتة فى حضرة عيون لماحة، فذهب وتخصص في لغتها.. إن لغة العيون كإيحاء اللوحة.. صامتة هى الأخرى لكنها بليغة وأقرب للحقيقة.. لقد آثر صاحب اللوحات أن يتميز فى عالم الصمت البليغ فاختار التخصص فى سر العيون (جامعة الخرطوم، فالقصر العينى)..والآن فاجانا وهو بروفسور، عميد ومدير، وصاحب تجليات بمعرض للرأى صامت وبليغ ومثير للجدل الخلاق.. لم يشغله ذلك عن مهام أخرى إنسانية بلا حدود، فهو طبيب، ويداوى بالألوان، لكنه أيضا (إنسان) يتفاعل مع حاجة المجتمع المتزايدة فى مجال حيوى وحساس هو(مكافحة العمى) وله مبادرات منها أنه (المنسق القومى لمكافحة العمى).. وهو قائم على تأسيس(مركز السودان للعيون) يؤمه المئات يوميا حامدون للمولى وشاكرون على نعمه ونحن أيضا.

الحمد لله (السودان بخير)..وهذا ما خطر لى وأنا أنتقل من المعرض إلى المسرح لأفاجأ بالمذيع الدكتور عمر الجزلى في الصدارة، يقدمنى كأول متحدث عن محتفى به صفته الأساسية أنه(عالمى).. شهرته حملت له الأوسمه من كل أرجاء الكون..على شاشة البلازما يظهر المحتفى به والدولة تكرمه بوسام رفيع، وشهادات بليغة الدلالة كون مصدرها الإمام أحمد المهدى والأستاذ محمد إبراهيم نقد ومولانا دفع الله الحاج يوسف وشخصيات عالمية وعربية وسودانية عديدة..يزدهي المقام بأسماء فى حياتنا بهية الصدى، ولمذيعنا الكبير كلمة ضافية عن المحتفي به وسلسلة حلقات معه من برنامجه التلفزيونى الشهير..من جانبي تحدثت بلغة الأسفار،فذكرته بأيام سويسرا والمبنى العالمي الأكثر شهرة واحتراما (المنظمة العالمية للأعمال الفكرية) ومبادرته الجهيرة غير المسبوقة (وسيط جنيف)..شكلت مدار حديث العالم وقتها، حيث جمع إثنين من رموز السودان للتآخى والتواضع على ما يجمع.. بعض المتحدثين يرشحون د.كامل إدريس لمبادرات وأدوار وطنية جديدة..فالآن بإمكان (وسيط جنيف)أن يطلق من بيته فى بيت المال بأم درمان وساطة مع عدة أطراف مؤثرة فى الحياة العامة وفى المزاج العام.

كثير هو ما يترقبه السودانيون من شخصية سودانية عالمية تسعفها قدرات إدارية دبلوماسية هائلة، فضلا عن كرامات (بر الوالدين) كما كشف دكتور يوسف الكودة فى كلمته وهو يضفى على المنصة شيئا من (روح وريحان) ليفتى بأن كامل إبن بار بوالديه وأن سر التوفيق والتميز كامن لكل إنسان وراء (بر الوالدين).

تظل نداءات أهل السودان (تعالوا إلى كلمة سواء) باقية متأججة تدعو للبر بهذا البلد.. العالم اليوم تسوده ثقافة التميز والمنافسة بالأفضل، وأساس ذلك العلم والعدل والحكمة و(إحترام الآخر)..فهاهنا تكمن كلمة السر فيما يصلح الحال.. ما أحوج البلاد لوسطاء من الداخل وإلى تكتل من أبنائها يستقطب المتميزين فى كل المجالات، يعملون معا على طريقة (زعماء العشائر) وبحنكة (خبراء التفاوض) وبسر خبطات (ناس الجودة).. يتصدرون المحافل بالفكر والخيال والهمة والحكمة والمبادرة، يحلون المشاكل ويقربون بين الفرقاء، كلمتهم (لا تقع واطة) ولا تذهب أدراج الرياح.