رؤية جديدة السودان

✍ د. ماجد السر عثمان : مراسي الخرطوم تشرق من تحت الرماد (2)

-

لم تكن الحرب على الخرطوم مجرّد حدثٍ سياسي أو صراعٍ مسلح، بل كانت زلزالًا إنسانيًا خلخل البنية التحتية والمجتمعية، وجعل من العاصمة مسرحًا للرماد والدخان والدمار.

ولكن الخرطوم، بعناد المدن العتيقة، لم تُسلم نفسها للعدم. فعلى أنقاض المليشيات، وتحت شمس يونيو الحارقة، بدأت تشرق من جديد.

ليس من رأى كمن سمع...

التجوال في شوارع مركز الخرطوم اليوم، يكاد يربك الذاكرة.

غابت معالم الطريق التي كنا نستدل بها على وجهاتنا: المحلات، الدواوين، الزحام البشري...

ولأول مرة أدرك أن "فراغ المكان" قد يكون سببًا في التيه.

كأن الخرطوم غسلت ملامحها، ثم قررت أن تبتكر وجهًا جديدًا.

ورغم غياب التغطيات الإعلامية، هنالك إنجاز إعجازي حدث بهدوء:

عشرات الآلاف من الجثامين تم مواراة أجسادها في صمت،

ومئات الآليات المحترقة تم رفعها من الشوارع،

وملايين فوارغ الذخائر أُزيلت،

وتم تطهير وتعقيم الميادين، حتى صارت الخرطوم أنظف من قبل الحرب.

لم تقتصر حملات النظافة على وسط المدينة فحسب، بل امتدت إلى أطراف الأحياء، حيث تمت إزالة الأنقاض وتسوية الشوارع المتشققة...

رأيت "الجنود المجهولين" بأم عيني...

لا يحملون السلاح، بل المكانس والمعاول،

يواجهون لهيب الشمس بدافعٍ وطني غالب، وبكثير من الكرامة.

إنهم عمال النظافة، والمتطوعون، وموظفو الحكومة الذين عادوا إلى مكاتبهم وشرعوا في ترميم ما تبقى من ذاكرة المكان.

منظر موظف حكومي وهو يزيح التراب عن درج مكتبه...

ومنظر آخر يعلق صورةً للخرطوم ضفافها الست وحدائقها الغناء...

وأعينهم تفيض بدمعٍ مختلط: بين فرح العودة ولقاء الزملاء، وحزنٍ دفين على ما دمرته الحرب.

النظافة الآن هي السمة الغالبة لولاية الخرطوم...

والدهشة ترتسم في الخيال:

كيف انتقلنا من التحرير إلى هذا المستوى من التنظيم في أيام معدودات؟

قد لا تعني "النظافة" في ظاهرها أكثر من إزالة القمامة، لكنها في الحقيقة هي أولى خطوات الترميم الوطني.

إنها إعلان صامت بأن هذه المدينة، برغم الجراح، لا تزال تصلح للحياة... بل وللحُب أيضًا.

ونواصل... إن شاء الله