رؤية جديدة السودان

✍ د. عبدالسلام محمد خير : وسيط جنيف وثقافة التراضي.. هل من أفعال؟

-

(الموضوع يحتاج لوقت)!..وبمرور الزمن أخشى أن يصبح هذا(لسان حال) بينما الدولة تعول على(المبادرات) من قبيل (التحفيز)، (التفكير خاج الصندوق) ، الإستثمار في (الإمكانات الهائلة للبلاد) و(المؤهلات الضخمة للمجتمع) و(مشروع إشاعة الطمأنينة)..كل ذلك يتداعى كأمل لحل النزاعات، حتى إن أحد المؤتمرات أقر صراحة: (إن الإحتراب لن يتوقف بالترتيبات العسكرية وحدها، ولكن بتحقيق الطمأنينة)..وهكذا فإن دعاة (الموضوعية في الشدائد) مرشحون لدور مفتاحي هو إشاعة ثقافة (الطمأنينة) وقوامها (التراضي).

إن باب المبادرات مازال مفتوحا برغم كثرتها وقلة المردود..الجديد هو تداعي مبادرات (نوعية) ثقافية وإجتماعية تتعهد بإستيعاب الآخر بالكامل، لتسود الطمأنينة (يقينا).. ولو تبصرنا حولنا لاكتشفنا التزاحم نحو هذه المبادرات من التيارات الجديدة، فهي برغم بطء مردودها لكنها الأنجع والأجدى.. ثم إنها هي الأصل بمقاييس قيم المجتمع وتراثه، وبمقياس التجارب العالمية والإنسانية..إن (ثقافة التراضي) وراء كل مبادرة سياسية كتب لها النجاح حتى الآن.

أيا كانت النتائج فإن (التراضي) ظل يشغل أهل السودان.. يريدونه كيفما إتفق ومن أى إتجاه لاحت بشائره، ولكنهم يفضلونه على بينة (على تقوى من الله ورضوان).. إن التراضي فيه إعتراف بالآخر ويغرى بالقبول، وبالإمكان أن نجد له أكثر من أب..دعوه يتحقق ليذكرنا بفضيلة (خيركم من يبدأ)..إني كلما ظهرت مبادرة هدفها (التراضي) تذكرت تجربة سودانية شغلت الكون، قادها (وسيط جنيف)- هل تذكرونه وتذكرونها؟.. عقب إنفضاض تلاقي قطبي النزاع المحتدم وقتها (الإمام الصادق المهدي والدكتور حسن الترابي) بجنيف، أقبلت على الخرطوم دعوات لزيارة سويسرا،2001 ..كنت ضمن دعوة رتبت مع التلفزيون.. فهمنا أنها لتقفى أثر تلك (الوساطة) فى مسرحها، بل على طاولتها، فلقد إشتمل برنامج الزيارة بندا يقول (لقاء بالمكتب الذى شهد الوساطة)!.

0..و(وسيط البحر الأحمر)!:

إن للأمكنة دلالة، فإنها تشهد.. لقد بقيت في الذاكرة رمزية شاخصة لمكان فى (جوف البحر الأحمر) كان قد أختير مقرا لوساطة جمعت بين الرئيس جعفر نميري والإمام الصادق المهدي.. الوسيط نجم مجتمع، رجل إدارة وحكمة، بيته مفتوح للكافة،الضابط الاداري فتح الرحمن البشير.. وساطة ترتبت عليها أفعال جددت نوازع (التراضي المؤسس) والأعين على البرلمان..فماذا فعلت ( وساطة جنيف)؟.. زيارة جنيف هذه كانت تبدو بحثا عن إجابات.. ليس مصادفة أن يكون وراءها مهندس عثمان ميرغني متعدد الإهتمامات، والتساؤلات..شارك فيها صحافيون منهم الأستاذ عبد الله آدم خاطر وهو ممن يتنفسون (ثقافة التراضي) التى كانت مدار حديثنا طوال الرحلة وقد إتخذ طابع الشكوى :(الحرب عاجلتنا فعطلتنا، الحكومات تستعجل النتائج، من السهل أن نرمى المثقفين بالتمهل).. الموجع هو ظهور إتهام أخر لا يعفى أحدا وهو(الوضع الثقافي الساكن) في بلاد رأسمالها الأساسي التنوع، فمن ينفى؟. المهم ما العمل؟..جربنا الوزارة والهيئة والإتحاد وكل أنماط (التحريش) والعمل بالوكالة عن المجتمع.. ربما كان المخرج كامنا في ما هو بين هذا وذاك، بين السياسة (السلطة) والثقافة (المبادرة) - مبادرة السلطة وسلطة الثقافة.. هكذا جرى حوار الوفد مع نفسه طوال الرحلة - رحلة التعايش مع(ثقافة التراضي) إنجاحا من جانبنا لمهمة وسيط جنيف..حتى لا تتسرب من الأيدي.

*0..(الذكاء الثقافي).. يتجلى:*

نعلم أن بلادا شهيرة أفلحت في الأخذ بمزيج من هذا وذاك، من السياسة والثقافة خاصة في أوقات حروبها.. المثال كان ماثلا أمامنا فى(حالة) سويسرا-ذاتها!.. كنا نراها سابحة في (مجدها الوئامي) رغم الحروب التى خاضتها.. والصين زرناها يوما لنجدها مشغولة (بالثورة الثقافية) فاختارت شعارا لها (دع ألف زهرة تتفتح) بينما كانت تواجه حربا طاحنة.. اليوم أين هي الصين؟. و(حرب أكتوبر) نعرف أنه مهدت لها ( ثقافة) ذكية أعمت بصيرة العدو وأربكته..إن نتائج (الذكاء الثقافي) تتجلى هنا وهناك، وفيها إعتراف بأهمية دعم (الإحياء الثقافي) على أيام بروف أحمد عبدالعال للتصدي لقضايا السلام بالإنتماء وإبراء الذمة تجاه مقدرات البلد وقد باتت تستهدف فى وضح النهار، بل سيادتها- لا قدر الله.

هنالك نشاط ثقافي لكنه متقطع بينما منابع الإبداع لا تحدها حدود..هل يأخذ العمل الثقافي بزمام (مبادرة جامعة) لكل المبادرات لإخماد حرب إستعصت تاريخيا على فكرة الحملات؟..إن العمل الثقافي بطبيعته لا يتناسب مع منهج الحملات، يثمر بالإستمرارية.. العالم اليوم مشغول بتصميم الهجمات الثقافية عبر إعلام حديث يلاحق أنفاس الناس بلطف، بما يحبون، فنسمع بثقافة الجودة، ثقافة التغيير، ثقافة البيئة، ثقافة العولمة، ثقافة الأسرة الممتدة وثقافة إرضاء الجمهور.

إن (الطرق) المتلاحق حول ما ينقص مشاريعنا، من (المشروع الوطني)، إلى مشروع (ثقافة السلام) الذي نطرحه بحماس على طاولة أي مؤتمر ثم نتركه مكانه!.. لعل الأمر يختلف حين يبادر مؤتمر فيدعو لإطلاق (حملة واسعة للتعافي الثقافي في كل إنحاء البلاد).. وفى بالنا ما بدأنا به، تجربة (وسيط جنيف) التى تداعت بين محفزات أهل السودان للتراضي والسمو على ما يباعد.. أين ذهبت ملفاتها؟!.. خروجا عن صمت غير مبرر ندعو للتوثيق لأي تجربة من منتجات العقل السوداني ومنها تجربة سويسرا هذه المتفردة.. هناك مبادرات وتجارب ما زالت مؤهلة لتؤتي ثمارها، فقط لو أننا أخذنا بما هو مجرب، يصلح الحال ولا يفسد للود قضية.

إن تجارب الشعوب جديرة بوقفة..تجربة (وسيط جنيف) راقبها العالم وتوقع منها خيرا فماذا هناك؟..ما النتائج؟..من ينبري لدراستها وإستخلاص مآلاتها؟..واضح من الوثائق التى إطلعنا عليها أن من أطلق (مبادرة جنيف) كان مشغولا بمستقبل السودان (وقتها) فلقد عزز مبادرته بكتاب (السودان 2020 – تقويم المسار ورؤية المستقبل).. يتناول تاريخ السودان السياسي المعاصر– دروس وعبر، رؤية المستقبل، التنمية المستدامة، التراضي وإعادة البناء- نماذج دولية (جنوب أفريقيا، اليابان، سويسرا، كندا) للإستئناس بتجارب هذه الدول فى تحديد (الرؤية الإستراتيجية لبناء مستقبل السودان).. وخاتمة الكتاب تكشف عن (التحدي) الماثل أمام مبادرة بهذا الطموح، وأي تحد هو؟.

*0..سوداني عالمي بادر.. ليته فعل:*

الدكتور كامل إدريس، المدير العام للمنظمة العالمية للملكية الفكرية بالإنتخاب لدورتين، يقول فى مقدمة كتابه هذا (علمتني تجارب الحياة، خاصة ما يتعلق منها بالشأن العام، أن كل تصور فكري أو بناء تنظيمي لا ينغرس في التراث الأصيل للأمة، ولا يهدف إلى مصلحتها فى تجرد مخلص، ويكون قادرا على الإستجابة للحاجات والطموحات المتجددة، سينهار ويتبدد هدرا دون طائل جدوى فى حياة الناس).. هكذا..كأنه يجيب، السلام كيف؟.

الإجابة أشبه بالتحدي، وقد إنتهي إليه هذا الخبير السوداني العالمي (كامل إدريس) فى خاتمة مؤلفه، إذ يقول صراحة :(إن التحدي المنطقي والحقيقي الذى تواجهه هذه الرؤية هو إنزالها منهجا يشارك فيه أهل السودان كافة بتراض وإتساق). فكأنه قصد أن لا يترك شيئا يقال من ورائه يوم تكتمل دورة الزمان - 2020..لكن ما يقال وارد، ومنه ليت (عشرينية للسودان) إنطلقت وقتها وصادفت إجماعا وتنفيذا كرصيفتها الماليزية.

الحمد لله على كل حال، فلربما أدركت البلاد أهمية مراجعة خطاها ومبادراتها وتجاربها بما يعينها على الإنطلاق -ولو أخيرا، إجماعا وتنفيذا.. إنها إستغاثة تذكرنا بنداءات (المؤتمر الدستوري)، فهل من مغيث والسلام الآن على المحك، وكذلك فكرة (السيادة) و(الدولة)؟