✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ من يداوي جراحات السودان

"من يداوي جراحات السودان؟" سؤال يحمل أبعاداً رمزية ووطنية عميقة، وكأنه تساؤل عن المسؤول الحقيقي عن شفاء هذا الوطن الجريح، بعد ما حلّ به من حروب، ودمار، وانقسام.
والإجابة ليست شخصاً واحداً، بل منظومة من الإرادات الصادقة، عملت علي اتساع جراحات الوطن
في زمنٍ انكشفت فيه كل الجراح، وتمزقت فيه الخرائط علي أجساد الابرياء هل يداويها السياسيون وقد طال صمتهم، وتاهت بوصلتهم بين المكاسب والمناصب؟
أم يداويها المجتمع الدولي الذي لطالما اكتفى ببيانات الشجب والأسى؟
أم ننتظر معجزةً من السماء، تُنهي الحرب وتعيد السلم؟
لا... الحقيقة الأصعب أن من يداوي جراح السودان ليس إلا أبناؤه المخلصون، أفرادًا وجماعات، قلوبًا قبل العقول، حينما تصحو الضمائر، وتُدفن الأحقاد، وتعلو قيمة الوطن فوق كل انتماء ضيق، تبدأ رحلة الشفاء الحقيقي.
حين نرفض أن نكون وقودًا لصراعات أمراء الحروب، ونقرر أن السودان أغلى من الطائفة والقبيلة والجهويه.
هي التي وقفت على الأطلال، تبكي الأبناء، وتطعم الجياع، وتضمد الجراح في صمت.
هي معلمة ومزارعة وطبيبة وناشطة، وهي رمز الصبر والحكمة.
إن أعطيت حقها في المشاركة، ستكون في مقدمة من يداوي هذا الوطن.
رغم أنه الأكثر تضرراً، فهو أيضًا الأكثر طاقةً للتغيير.
إن تم تمكينه، وتزويده بالعلم والمهارات، وتحويل الغضب إلى بناء، فسيعيد رسم خريطة السودان الجديدة.
جيل ما بعد الحرب لا يجب أن يُورِّث الخراب، بل يزرع الأمل.
المفكر، والكاتب، والصحفي الوطني... كلهم أدوات مقاومة ناعمة.
بكلمة صادقة، ومقال شجاع، ورؤية مستنيرة، تُضاء العقول وتُفتح النوافذ المغلقة.
فالبلاد لا تُبنى فقط بالسلاح، بل بالأفكار.
المعركة القادمة ليست عسكرية، بل معركة فكر وبناء.
الجامعات يجب أن تتحول إلى مراكز تخطيط وابتكار، والمختصون يجب أن يُستدْعَوا للمشهد
لإعادة إعمار المدن، لإصلاح الاقتصاد، لإعادة تأهيل الإنسان السوداني.
آلاف السودانيين بالخارج يملكون خبرات وشبكات دعم هائلة،
إن عادوا أو أسهموا من مواقعهم، فبإمكانهم لعب دور مفصلي في التنمية، والاستثمار، ونقل التجارب.
البلاد تحتاج إلى "مشروع وطني جديد"، يضع خارطة طريق للسلام، والعدالة، واللامركزية، والتنمية المتوازنة،
تُشارك فيه كل الولايات، وكل الأعراق، ويؤسس لعقد اجتماعي جديد.
يداويها كل من يرى في الوطن حبًا لا يُباع، وفي التراب عرضًا لا يُساوَم، وفي الإنسان قيمة لا تُهدر.
يداويها من يؤمن أن بعد النزيف، هناك شفاء، وبعد الانكسار، هناك نهوض... شرط أن نمد أيادينا لبعض لا للرصاص.
شعبنا الابي هو أول من تقع عليه مسؤولية التغيير، فالوعي الجمعي، والمصالحة المجتمعية، والوقوف صفاً واحداً ضد الفوضى والكراهية، هي البداية الحقيقية للشفاء.
نحتاج إلى قادة بمستوى الألم، يتجردون من الأجندات، ويتحدثون باسم الوطن لا الحزب أو القبيلة، ويقدمون مشروعاً جامعاً لإعادة البناء.
الأطباء، الأكاديميون، المهندسون، والخبراء في شتى المجالات، هم من يمكن أن يداووا الجراح بمشاريع واقعية، وخطط لإعادة بناء الإنسان والمؤسسات.
الجيل الجديد هو روح السودان ومستقبله، وإذا أُعطي الفرصة، وُجّه نحو التعليم والتقنية والمبادرة، فسيكون أقدر من يداوي جراح وطنه.
المجتمع الدولي الإقليمي بشرط ألا يتدخل لفرض أجندة، بل يساهم بإخلاص في دعم السلام والتنمية، والاستثمار في مستقبل السودان لا في صراعاته.
يداوي جراح السودان من يؤمن أن هذا الوطن يستحق الحياة، ومن يرى في ترابه كرامة لا تُباع، ومن يحوّل الألم إلى أمل والعمل.