رؤية جديدة السودان

✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ هل تتغير العقلية السياسية في السودان؟

-

في لحظات ما بعد الحروب لا يكفي أن نُرمم ما تهدّم من البنى والمباني، بل لا بد أن نُرمم ما تهدّم في نفوس الناس وفي طرائق تفكيرهم، وفي أنماط حياتهم السياسية التي ربما كانت أحد أسباب الانفجار فالسودان بعد حرب الكرامة يقف على مفترق طرق حاسم إما أن نعيد إنتاج الماضي بكل إخفاقاته، أو نختار بإرادة وطنية نظام سياسي متقدم (كيف نحقق ذلك)

لقد أثبتت الحرب بما لا يدع مجالاً للشك أن الأزمات في السودان لم تكن يومًا نتيجة مؤامرات خارجية فقط بل كانت نتيجة تراكمات داخلية وأخطاء سياسية جسيمة ونمط حياة سياسي مختل لا يُعبر عن تطلعات المواطن السوداني ولا يراعي تنوعه. ظلّت السلطة حكراً على نخب ضيقة تَغلّب الولاء على الكفاءة وغابت مؤسسات الدولة الرشيدة وغياب المنهجية السياسية التي تضع خارطه طريق وانهيار المؤسسات وتشريد الملايين برزت حقيقة مُرّة أن إستمرارنا في ذات المسار السياسي يعني أننا لم نتعلم شيئًا من آلامنا وأننا نهيّئ أنفسنا لحروب قادمة.

إن تغيير نمط الحياة السياسية بعد الحرب لم يعد ترفًا، بل صار ضرورة وجودية، تتوقف عليها وحدة الوطن واستقراره ومستقبل أجياله القادمة

في ظل الأوضاع المأساوية التي يعيشها السودان منذ اندلاع الحرب تطرح تساؤلات حيوية حول مستقبل البلد، وعلى رأسها سؤال محوري :

هل تتغير العقلية السياسية في السودان؟

لقد كشفت الحرب عن عمق الخلل في البنية السياسية، وفشل النخب في تقديم نموذج وطني جامع فقد ظلّت العقلية السياسية السودانية رهينة للصراعات الحزبية والتحالفات القبلية والاصطفاف الجهوي مما أدى إلى إنتاج دولة هشة تغيب عنها المؤسسات وتسيطر عليها الولاءات الضيقة.

لا يمكن بناء سودان جديد بعقلية قديمة. المطلوب الآن ثورة في الوعي السياسي تبدأ من إعادة تعريف المفاهيم :

أن السياسة ليست وسيلة للتمكين بل أداة لخدمة الشعب.

أن السلطة ليست غنيمة، بل مسؤولية.

أن الانتماء الأول يجب أن يكون للوطن، لا للقبيلة أو الحزب.

هذه الثورة لا تبدأ من القصر الجمهوري، بل من المدرسة والجامعة والمسجد والسوق، ومن كل منصة يمكن أن توصل فكرة وتنشئ وعياً.

ما الذي يُمكن أن يغيّر العقلية السياسية؟

. جيل جديد يؤمن بالمواطنة والكفاءة بدل الولاء والجهوية.

. إعلام حر ونزيه يصنع رأياً عاماً مسؤولاً.

. حركات شبابية تتبنى التغيير لا التمرد فقط.

. نظام تعليمي يعزز التفكير النقدي والانتماء الوطني.

العقبات أمام التغيير

لكن هذا التغيير لن يكون سهلاً. فهناك:

نخب مستفيدة من الوضع القائم.

قوى خارجية توظف الانقسام لصالحها.

ثقافة خوف وترهيب من التغيير.

تغيير العقلية السياسية في السودان ليس مستحيلاً، لكنه يتطلب إرادة جماعية وشجاعة أخلاقية لمواجهة الذات أولاً، قبل مواجهة الآخر. السودان الجديد لن يولد من رحم الاتفاقات المؤقتة، بل من وعي دائم يُنتج نخبة جديدة بروح وطنية حقيقية.

فهل نحن مستعدون لذلك؟