✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ السودان وإعادة صياغة المشهد السياسي الخارجي

منذ إندلاع الحرب وما تبعها من أزمات سياسية واقتصادية، تراجع موقع السودان في محيطه الإقليمي والدولي، وأصبح عرضة للتجاذبات الخارجية وتضارب المصالح الدولية. لكن في ظل التحديات الكبرى التي تواجه البلاد، تبدو الحاجة ملحّة لإعادة بناء المشهد السياسي الخارجي على أسس جديدة تعكس المصالح الوطنية وتعيد للسودان مكانته الطبيعية كجسر بين إفريقيا والعالم العربي.
لن يستقيم حال السياسة الخارجية من غير صياغة رؤية وطنية متفق عليها تقوم على مبدأ "المصلحة الوطنية أولاً". هذه الرؤية يجب أن تحدد أهداف السودان بوضوح الأمن القومي، دعم الاقتصاد، إعادة الإعمار، واستعادة الثقة الدولية. ومن دون هذه المرجعية سيظل السودان يدور في فلك السياسات المتناقضة.
تعاني الدبلوماسية السودانية من الضعف والتسييس، مما أفقدها القدرة على الفعل والتأثير. المطلوب إعادة هيكلة وزارة الخارجية واختيار الكفاءات بعيداً عن الولاءات الحزبية والعسكرية، وتحويل السفارات إلى منصات فاعلة للتواصل الاقتصادي والثقافي، لا مجرد مكاتب إدارية تستهلك الموارد.
على السودان أن يعيد الاعتبار لعمقه الإفريقي عبر الاتحاد الإفريقي ومنظمة الإيقاد، بما يضمن دعماً إقليمياً في قضايا الأمن والسيادة. أما على الصعيد العربي، فالمطلوب بناء شراكات استراتيجية مع دول الخليج ومصر، خاصة في مجالات الأمن الغذائي والطاقة، مع الحفاظ على استقلالية القرار السوداني وعدم الارتهان لأي طرف.
يحتاج السودان لعلاقات متوازنة مع القوى الكبرى. الغرب يمكن أن يكون شريكاً في رفع العقوبات وإعفاء الديون، بينما تمثل الصين وروسيا داعماً في مشروعات البنية التحتية والطاقة. لكن التوازن مطلوب حتى لا يتحول السودان إلى ساحة صراع بين المحاور الدولية.
العالم اليوم يقيس قوة الدول بقدرتها الاقتصادية، وهنا تبرز أهمية تحويل السياسة الخارجية إلى أداة جذب للاستثمار، عبر الترويج لموارد السودان الزراعية والمعدنية والموقع الجغرافي الاستراتيجي. توقيع اتفاقيات طويلة الأمد مع شركاء موثوقين سيوفر فرصاً للنهوض الاقتصادي ويدعم إعادة الإعمار.
للسودان رصيد حضاري وثقافي ضخم يمكن أن يكون ركيزة لبناء صورة إيجابية في الخارج. الفنون، الرياضة، التعليم، والجاليات السودانية في المهجر كلها أدوات يمكن تفعيلها كقوة ناعمة، تسند الموقف السياسي وتفتح مساحات أوسع للتأثير.
في ظل صراع المحاور الإقليمي والدولي، من الحكمة أن يتبنى السودان سياسة الحياد الإيجابي، أي عدم الانحياز لطرف على حساب آخر، مع لعب دور الوسيط في النزاعات. هذا الخيار يعزز ثقة العالم بالسودان ويعيد إليه مكانته التقليدية كجسر للتواصل بين الشعوب.
إن تطوير المشهد السياسي الخارجي للسودان ليس ترفاً فكرياً بل ضرورة لبقاء الدولة واستقرارها. السودان اليوم أمام فرصة تاريخية: إما أن يظل تابعاً للتجاذبات، أو أن ينهض برؤية مستقلة تعيد رسم مكانته في العالم. والمفتاح لذلك هو إرادة سياسية رشيدة، دبلوماسية مهنية، واقتصاد متماسك يفرض احترام السودان على الخارطة الدولية. وسودان مابعد الحرب اقوي واجمل