✍ أبوعبيده أحمد سعيد محمد : الشخصية السودانية ؛ ميراث الرعوية والزراعية بين الحسد والكرم والولع بالسياسة

السودان، تلك الأرض الغنية بمواردها وبتنوع ثقافتها، يحمل في طياته شخصية وطنية شديدة التعقيد، نسيج متشابك من جدليات البادية والنهر، بين روح الرعوي وابن الأرض. فالرعوي، بمقدامته وشجاعته، يقدس الحرية الفردية والكرم، غير أن العصبية القبلية والتنافس الفردي غالبًا ما يعيقانه عن الانضباط المؤسسي. أما المزارع، فمرتهن لدورة الزراعة والمواسم، فيتعلم الصبر والتخطيط والعمل الجماعي، لكنه قد ينزلق أحيانًا إلى الرضا بالواقع والبطء في التغيير.
وقد أشار باحثون سودانيون مرموقون، أمثال عبد الله الطيب، والطيب زين العابدين، وعثمان سيد أحمد إسماعيل، إلى أن هذه السمات المزدوجة تركت بصمتها على إدارة الدولة وسياستها، فأفرزت واقعًا متناقضًا: مؤسسات هشة، نزاعات قبلية مستمرة، ومشروعات وطنية تُجهض في مهدها. وقد سبق لابن خلدون أن أكد أثر البداوة والحضارة في صياغة شخصية الأمم؛ حين تسود البداوة، تغلب العصبية والفروسية، وحين تسود الزراعة، ينبثق العمران والتنظيم.
السودان والحسد والكرم: ثنائية الشخصية السودانية
ظل السودان حبيس عقلية مزدوجة، نصفها رعوي مندفع يقدس الزعامة الفردية، ونصفها زراعي بطيء يرضى بالحد الأدنى. والحسد في السودان ليس مجرد شعور اجتماعي عابر، بل هو موروث ثقافي واجتماعي قد يكون له جذور جينية، انعكاسًا للتراكم التاريخي للقبائل العربية التي هاجرت إلى أرض السودان.
تشير الدراسات التاريخية إلى أن 13 قبيلة هاجرت من أصل 16 قبيلة عربية مشهورة بالحسد، واستقرت في مناطق السودان، تاركة بصماتها على قيم التنافس والغيرة الطبقية. هذا التراكم التاريخي ساهم في تشكيل الشخصية السودانية بمزيج دقيق: الكرم الموروث من حياة الرعاة، والحسد المتأصل في بعض النخب والعلاقات الاجتماعية، وهو ما انعكس على ضعف المؤسسية، وتعطيل المشروعات الكبرى، وتأخير التنمية.
تُعدّ سمات الحسد والغيرة والكرم من أبرز الملامح المتناقضة للشخصية السودانية، وقد ظهر أثر الحسد في وقائع مفصلية من تاريخ السودان الحديث:
• حرق أول عملة وطنية: القرار اتُّخذ بدوافع سياسية وحزبية مرتبطة بالحسد من شعبية الزعيم إسماعيل الأزهري، مما أدى إلى فقدان الثقة في السياسة النقدية واندلاع احتجاجات.
• تعطيل فتح بورصة القطن عام 1960: الصراعات والمؤامرات أرجأت افتتاح البورصة، فانهار القطن وهبطت أسعاره، وضاعت موارد تصديرية كانت السودان في أمس الحاجة إليها.
• شهادة المفتش الإنجليزي بيتر هوغ: الذي صاغ صورة بليغة حين قال: «إذا صعد أحدهم إلى قمة شجرة، فإن الآخرين لا يكتفون بعدم مساعدته، بل يقطعون الشجرة كلها»، مؤكدًا كيف يعوق الحسد التعاون والتنمية.
ولكن هذا الداء لم يكن وليد اللحظة، بل هو ميراث عربي قديم انتقل مع هجرات القبائل. وقد جسّد الشاعر الجاهلي الفحل بشر بن أبي حازم الأسدي هذا الداء تصويرًا بليغًا:
إنا وباهلهِ بنُ يعصرَ بيننا
داءُ الضرائرِ بغضةٌ وتقافي
فالبيت يكشف أن الحسد داء مزمن يزرع البغضاء بين الأقارب والأقران. ثم يواصل الشاعر رسم مآلات هذا الداء حين يتحول إلى صراع دموي:
مَن يُثْقَفوا مِنّا فليس بمفلتٍ
أبدًا، وقتلُ بني قُتَيبَةَ شافي
ففي منطق الحسد، يصبح القتل نوعًا من الشفاء النفسي، وكأن إزالة المنافس لا تتم إلا بإفنائه. ثم يضيف بشر:
بَلّتْ قُتيبةَ في النواء بفارسٍ
لا طائشٍ رَعِشٍ ولا وَقّافِ
وكلمة "بَلّت" هنا بمعنى أصابت وقتلت، وهو نفس الاستعمال الذي ما زال حاضرًا في الدارجة السودانية؛ فنقول: "بَلّ فلان" أي ضربه أو أهلكه. هذا الامتداد اللغوي يكشف كيف ظل أثر الموروث العربي حيًّا في المخيلة السودانية، من الشعر الجاهلي إلى لغة الحياة اليومية.
إن هذه الأبيات بما تحمله من مدلولات اجتماعية تكشف أن الحسد ليس شعورًا عابرًا، بل مرض اجتماعي قديم متجدد، ينتقل عبر الأجيال والثقافات، ويُعطّل التعاون ويُهدر الطاقات. ومع هجرة ثلاث عشرة قبيلة عربية مشهورة بهذه النزعة إلى السودان، امتزج هذا الإرث بالمجتمع المحلي، فصار جزءًا من شخصية السوداني: تناقض بين الكرم الذي يفتح الأبواب، والحسد الذي يقطع الطريق.
وفي مقابل هذا الوجه القاتم، يظل الكرم السوداني هو الوجه المضيء الذي يعيد التوازن. فهو ميراث رعوي وزراعي أصيل: فالرعوي يعتبر إكرام الضيف مسألة بقاء في الصحراء، والمزارع يرى في التعاون مع جيرانه ضمانًا لنجاح الموسم. وهكذا تتجلى الثنائية: الحسد الذي يهدم، والكرم الذي يبني، وهما معًا يتحكمان في مسار التنمية والإنتاجية الوطنية حتى اليوم.
الولع بالسياسة: شغف متجذر
السوداني معروف بولعه بالسياسة، حتى وصف إسماعيل الحاج موسى الراعي بأنه يحمل مذياعه ليستمع إلى "بي بي سي" و"مونت كارلو". ومع بروز الإعلام الرقمي ووسائل التواصل الاجتماعي، تضاعف هذا الولع، حتى غدا النقاش السياسي جزءًا من الحياة اليومية. هذا الشغف يعكس حيوية المجتمع، لكنه كثيرًا ما استنزف الطاقات في جدل لا ينتهي، وأخّر بناء مؤسسات قوية.
أثر الميراثين على الإدارة والتنمية
مزج النزعة الرعوية إلى الزعامة الفردية مع الميل الزراعي إلى الرتابة والرضا انعكس سلبًا على الإدارة والتنمية:
• ضعف المؤسسية بسبب تغليب الحلول الفردية والولاءات الضيقة.
• إقصاء الكفاءات خوفًا من المنافسة، مما أضعف الأحزاب والنقابات.
• تعطيل المشروعات الكبرى نتيجة الحسد والتنافس غير البنّاء بين النخب.
كما يخلص عبد الواحد عثمان إلى أن:
"الحسد يؤدي إلى النزاع والحروب، مما يقود إلى التخلف والفقر والشتات بدلاً من الازدهار والرفاهية"
وهنا تبرز خلاصة د. منصور خالد: أن أزمة السودان في جوهرها ليست شح موارد ولا ندرة عقول، بل أزمة إدارة أعاقتها شخصية مزدوجة لم تحسم خيارها بين البداوة المنظمة والحضارة المؤسسية، وهو ما يفسر استمرار ضعف المؤسسات وفشل المشروعات الوطنية رغم ثراء البلاد ووفرة مواهبها.
رؤية مقارنة: العقلية السودانية في مواجهة العالم
الأمم لا تنهض بالموارد وحدها، بل بالعقلية التي تدير هذه الموارد:
• الصين: كما يوضح دان وانغ في كتابه Breakneck: China’s Quest to Engineer the Future (2023)، صعدت الصين بعقلية "المهندس"، حيث تعتبر التنمية مشروعًا يمكن إنجازه خطوة بعد خطوة، مع تخطيط دقيق، رقابة صارمة، وتنفيذ منهجي بعيدًا عن العشوائية.
• الولايات المتحدة: تُدار بعقلية "المحامي"، حيث يرسّخ الجدل القانوني والسياسي قيم الحرية والحقوق الفردية، لكنه أحيانًا يبطئ تنفيذ المشاريع بسبب التشدد في المناقشات والاختلافات القانونية والسياسية.
• رواندا: بعد حروب أهلية وعصبيات قبلية، أعادت بناء نفسها على أساس المواطنة والعمل المؤسسي، لتصبح نموذجًا إفريقيًا في النظام والتنمية.
نحو تغيير الذات: من التحديات إلى الفرص
التغيير يبدأ من الداخل: "إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم" (القرآن الكريم). والتحدي أمام السودان أن يحول ميراثه من عائق إلى رافعة:
• من الحسد إلى منافسة إيجابية.
• من الكرم الفردي إلى عمل مؤسسي.
• من الولع بالسياسة إلى إدارة رشيدة.
لقد أثبتت تجربة رواندا أن تجاوز العصبية القبلية ممكن إذا وُجدت إرادة سياسية وإدارة رشيدة. فبعد أن كانت القبيلة وقودًا للحرب، صارت ذكرى من الماضي أمام مشروع وطني جديد.
أما الإسلام، فقد دعا إلى رفع العصبية والغيرة: "إن أكرمكم عند الله أتقاكم"، ونصح النبي ﷺ بترك العصبية، "دعوها فإنها منتنة".
إذا استطاع السوداني أن يزاوج بين شجاعة الرعوي وصبر المزارع، بين كرم البادية وتنظيم الحقول، وأن يسمو فوق العصبيات الضيقة نحو بناء مؤسسات عادلة، فإنه سيصوغ شخصية جديدة تعيد للسودان مكانته بين الأمم، وتحوّل ميراث الحسد إلى محرك للنمو والازدهار.