رؤية جديدة السودان

✍ أحلام محمد الفكي : بين مجد الأمس ومأساة اليوم ؛ من يبني ومن يهدم

-

في زحام الأيام وتوالي السنين تتراءى لنا ذكريات الأمس كشعلة وضاءة تروي حكايات قادة تركوا بصماتهم نوراً، وقصص آخرين لم يتركوا سوى رماداً. هل هو مجرد الحنين إلى الماضي؟

أم صرخة مدوّية في وجه العبث تكشف عن جوهر أزمة القيادة والإدارة التي تعصف بمؤسساتنا؟

دعونا نعود بالذاكرة إلى فجر الألفية حيث كانت الرؤى تلامس عنان السماء، وحيث كانت الإنجازات تُصنع بإرادة صلبة وفكر مستنير.

البصمة التي لا تُمحى (قائد ورؤية).

في قلب مؤسسة ذات سيادة وأهمية، بزغ نجم قائد من طراز فريد. كان يدرك تماماً أن أساس النجاح والسيادة يكمن في عقول منسوبيه لم يكن مجرد مدير، بل كان مهندساً للتطوير، يعرف بدقة ما يريد: "الاستثمار في الإنسان هو الربح الحقيقي من هنا،

لم يكن إنجازه الأبرز مجرد توسعة إدارية، بل كان تأسيس "المكتبة الثقافية الضخمة"

لم تكن رفاًّ للكتب، بل كانت قبلة للبحث ومركزاً للإشعاع المعرفي. زُوّدت بأحدث أجهزة الكمبيوتر لتكون شرياناً حيوياً لعمل الموظفين الذي يرتكز على التنقيب والبحث والإنتاج، بل تعدّت فائدتها لتصبح ملاذاً لطلاب الجامعات الباحثين عن كنز المعلومة. كانت المكتبة تُجسد فلسفة قيادية "المعرفة قوة، والاستثمار فيها بناء للأمة".

رياح المؤامرات (اغتيال الإنجاز)

ولكن هل يكتب للنجاح الحقيقي أن يدوم طويلاً في زمن تتربص به الأنا والمؤامرات؟

للأسف كانت الإجابة مدوية بـ "لا". فسرعان ما تكالبت رياح الحقد والغيرة على سفينة هذا القائد المتميز. وفي لحظة مؤلمة، تم إعفاؤه، وكأن الإبداع والفكر المستنير جريمة لا تُغتفر. هذه هي المأساة التي تتكرر في كل مؤسسة "نجاح المتميزين يصبح وقوداً لحقد الفاشلين".

القشة التي قصمت ظهر الثقافة (قيادة الهدم)

حلّ محل القائد المؤسس قائد آخر، أتى من خارج أسوار المؤسسة حاملاً معه معاول الهدم بدلاً من أدوات البناء. وكانت الضربة القاضية، التي لن ينساها التاريخ، هي القرار الجائر الذي أصدره:

"نسف جميع الإنجازات". وأشدّ ما أدمى القلوب، هو الأمر بترحيل تلك المكتبة الثقافية الشامخة بكل ما تحتويه من كنوز إلى مبانٍ مهجورة. يا لَلْخسارة! تحوّلت تلك الكتب والمراجع، التي كانت قبلةً للباحثين ومركزاً للإشعاع الثقافي، إلى "هباء منثور". تحوّلت الثقافة إلى ركام، والمكتبة إلى أطلال. والسبب؟

يريد "القائد الجديد" أن يحلّ مكتبه الفخم وملحقات سكرتاريته الخاصة مكان مكتبة تزود الأمة بالمعرفة!

صرخة وبصمة ألم

أيّ عبث هذا! هؤلاء هم من نُطلق عليهم "قيادات". هم من دمروا الخدمة المدنية بقرارات تخدم الأنا وتقتل الرؤى. هم من حوّلوا مؤسساتنا من قلاع للمعرفة إلى مجرد "مكاتب شخصية". والمفارقة المؤلمة أن هؤلاء أنفسهم يسعون اليوم ليكونوا وزراء وقادة مؤسسات عظمى!

السؤال الذي يلسع الوجدان ويحمل في طياته مرارة التجربة: "هل يصلح العطار ما أفسده الدهر... وما أفسدوه هم بالأمس؟"

إن الفارق بين القائد الذي يبني مكتبةً وبين ذاك الذي يهدمها لـ "مكتب خاص به وسكرتارية" هو الفارق بين قيادة تترك بصمة نور، وقيادة لا تترك سوى ندبة ألم في جبين الوطن. فلتكن هذه الذكرى شاهداً حياً، وبصمة لا تُمحى، على ثمن العبث بالثقافة والمعرفة، ولتكون دعوة للجميع أن نُعلي صوت الوعي في وجه قيادات الهدم والنسيان. اللهم ولى علينا خيارنا وهيىءلنا من أمرنا رشدا