رؤية جديدة السودان

✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ إعادة هندسة المشهد الإداري

-

في مرحلة ما بعد الحرب، يواجه السودان تحدياً حقيقياً في إعادة بناء مؤسساته المدنية والإدارية. فالإعمار لا يبدأ بالحجر، بل بالإنسان الذي يدير ويُنتج ويُبدع. وهنا يبرز مفهوم تصحيح المسار الوظيفي كأحد أهم مفاتيح الإصلاح الإداري والتنمية المستدامة.

سنوات من التمكين والمحسوبية جعلت الوظيفة العامة في السودان تفقد معناها كميدان للكفاءة والعطاء. غابت العدالة في التعيين والترقي، وضاعت الكفاءات بين دهاليز المجاملة والولاء. ومع اندلاع الحرب، ظهرت هشاشة الجهاز الإداري، لأن الأساس الذي بُني عليه لم يكن قائماً على المهنية بل على الانتماء الضيق.

تصحيح المسار الوظيفي هو إعادة هندسة للمشهد الإداري بحيث يعود الموظف إلى موقعه الصحيح، ويُمنح الفرصة وفق قدرته لا حسب قربه من القرار. ويبدأ هذا التصحيح من وضع نظام شفاف للتعيين، يعتمد على معايير موضوعية، ومراجعة الهيكل الوظيفي بما يتناسب مع احتياجات المرحلة.

كما يتطلب الأمر إعادة تأهيل الكوادر عبر برامج تدريبية تواكب التحول الرقمي ومتطلبات الخدمة الحديثة. فالموظف الذي لم يُطوّر مهاراته، سيظل عبئاً لا إضافة. وهنا يأتي دور الدولة في تبني سياسة واضحة للتدريب المستمر، وإعادة تقييم الأداء بصورة دورية.

ولا يقلّ أهمية عن ذلك، إصلاح بيئة العمل التي تُشجع على الإبداع وتحترم الجهد، بعيداً عن الإحباط والبيروقراطية. فحين يشعر الموظف بأن كفاءته هي معيار بقائه، يصبح أكثر انتماءً وحرصاً على النجاح.

إن تصحيح المسار الوظيفي ليس مجرد خطوة إدارية، بل هو تحول وطني يعيد الثقة بين المواطن والدولة. فحين نضع الإنسان المناسب في المكان المناسب، ونرفع راية الكفاءة فوق راية الولاء، سنكون قد بدأنا فعلاً في بناء سودان جديد — سودان العمل والعدالة والمستقبل.

وخلال السنوات الماضية، عانت الخدمة المدنية في السودان من اختلال واضح في موازين التوظيف والترقي. فقد تحولت الوظيفة العامة في كثير من الأحيان إلى أداة للترضيات السياسية والاجتماعية، لا إلى ساحة تنافس على الكفاءة. ومع اندلاع الحرب الأخيرة، انكشف الضعف الإداري والفني في مؤسسات الدولة، إذ تراجع الأداء وتقلصت الخبرات المؤهلة التي يمكن الاعتماد عليها في إدارة مرحلة ما بعد الحرب.

وهنا تبرز أهمية تصحيح المسار الوظيفي كضرورة وطنية. فالمطلوب ليس فقط إعادة الموظفين إلى مواقعهم، بل إعادة ترتيب البيت الإداري من الداخل: مراجعة الهياكل، تقييم الكفاءات، وإبعاد من تسللوا إلى مواقع المسؤولية بلا مؤهلات حقيقية. فالمعركة القادمة هي معركة بناء الدولة، ولا يمكن أن تُخاض بأدوات الماضي.

وتحتاج المؤسسات الحكومية اليوم إلى برنامج شامل لتصحيح مسارها الوظيفي، يقوم على ثلاث ركائز أساسيةوهي

إعادة الفرز والتقييم عبر لجان مهنية مستقلة تُراجع ملفات العاملين لتحديد مواقع القوة والضعف، وتمييز الكفاءات الفعلية عن المناصب الشكلية.

وثانياالكثير من الكوادر تحتاج إلى إعادة بناء معرفي ومهاري يواكب التحول الإداري والتقني الحديث.

وثالثا العمل علي ترسيخ ثقافة العدالة والانضباط والمساءلة، وإلغاء المحسوبية كلياً من دوائر التعيين والترقي.

بهذه الخطوات يمكن أن تستعيد الخدمة المدنية السودانية روحها، وتتحول من عبء على الدولة إلى قوة دافعة لإعمارها.

ان تصحيح هندسة المشهد الاداري ليس شعاراً مؤقتاً، بل هو خطة إنقاذ وطنية لإعادة الثقة في مؤسسات الدولة. وحين يعود الموظف إلى مكانه الصحيح، وتعود الكفاءة لتقود القرار، سنرى إدارة قوية تقود إعمار السودان وتكتب فصلاً جديداً من تاريخ العدالة والمهنية.وسودان مابعد الحرب اقوي واجمل