✍ أحلام محمد الفكي : الخرطوم من ملتقى النيلين إلى ملتقى الأطماع ؛ لماذا دفع السودان ثمن جاذبية العاصمة؟

ملتقى النيلين.. السودان المصغَّر.. أيُّ سرٍّ تحمله الخرطوم العاصمة ليشدَّ إليكِ كلَّ القلوب والأطماع؟
منذ فجر الثمانينيات بدأت رحلةُ الشغف الجامح هجرةٌ عارمةٌ، أشبهُ بالسيل الذي لا يُرد، تتجهُ صوبَ القلب النابض، الخرطوم. كانت البدايةُ همسات.. ثم تحولت إلى تيار جارف، اكتملَ اكتمالَه المفجعَ في الألفينات. هنا، في ملتقى النيلين، تجسّد "السودان المصغر" بكل ألوانه وتناقضاته، ليصبحَ نقطةَ جذبٍ مغناطيسيةٍ لا تقاوم.
نعم، كانت قِبلةَ الجميع! من أقصى الشمال إلى أقصى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب، تُرِكَت الولاياتُ الهادئةُ، والمدنُ الوادعةُ، وفُضِّلَ الاستقرارُ في العاصمة؛ تملُّكًا كان أو إيجارًا. هجرةٌ لافتةٌ للنظر، خطفتْ الأضواءَ حتى خَفَتَ معها الاهتمامُ بتنمية بقيةِ الولايات. وكأنَّ التنميةَ والوجودَ لا يكتملان إلا تحت سماءِ الخرطوم.
المفارقةُ الموجعةُ أنَّ المواطنين في الولايات الأخرى كانوا ينعمون باستقرارٍ وأمنٍ نسبيٍّ أكبر! بينما بدأت الخرطومُ نفسها تتأوهُ تحت وطأةِ الاكتظاظ السكاني المهول. بدأ العِقابُ الإلهيُّ للازدحام: انقطاعاتٌ مؤلمةٌ في الكهرباء، وشُحٌّ في الماء، وشِقاقٌ على لقمةِ الخبز وجرعةِ الغاز. كلُّ زاويةٍ في العاصمة ضاقتْ بمن فيها، وكأنها تُنذرُ بانفجارٍ وشيك.
ثم جاء الطوفانُ الثاني: صراعُ الأحزاب، التي كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ. انقسمتْ الخرطومُ بين المتناحرين، وزادَ عددُ الميليشيات، وتحولت الساحةُ السياسيةُ إلى مسرحٍ مفتوحٍ لـ "التشاكس" والمهاترات. كانت كلُّ الدلائلِ، كلُّ الإشاراتِ، كلُّ الاستشعاراتِ، تصيحُ في وجهِ الجميعِ بأنَّ كارثةً مُحدِقة مقبِلةٌ على الخرطوم.
وقد صدقَ المتنبئون والمستشعرون. فما دام الدمُ قادمًا لا محالةَ، وما دام الشغفُ بالسيطرة على المركز لا يهدأ، كان لابدَّ أن تشتعلَ النار.
الحربُ ليستْ على ثروةٍ في الأطراف، بل على الخرطوم ذاتها! الكلُّ يريدُ أن "يحكمَ الخرطوم"، الكلُّ يريدُ أن "يسكنَ الخرطوم"، الكلُّ يريدُ أن "يسيطرَ على الخرطوم المركز، الخرطوم العاصمة، ملتقى النيلين". فالسيطرةُ عليها، تعني السيطرةَ الكاملةَ على "السودان". وهنا، يكمنُ السرُّ الأكبرُ والأخطر!
لم تعد الحربُ شأنًا سودانيًّا خالصًا؛ فكما جذبتْ الخرطومُ أهلَ الولاياتِ، جذبتْ أيضًا أطماعَ الدول، فدخلتْ في صراعها قوىً إقليميةٌ ودوليةٌ كانتْ وما زالتْ داعمةً للميليشيات، تغذي نارَ التناحر من أجلِ موطئِ قدمٍ استراتيجيٍّ على ضفافِ النيل.
إذاً، أيُّ سرٍّ يحملهُ هذا القوسُ الأسطوريُّ الذي يضمُّ النيلين؟ وأيُّ قوةٍ خفيةٍ حملتْ الجميعَ إلى التوجهِ نحوَ العاصمةِ، حتى وقعتْ الفاجعةُ والكارثةُ المروعةُ؟
الخرطوم ليستْ مجردَ مدينة، بل هي "الفكرة"؛ فكرةُ المركز، فكرةُ السلطة، فكرةُ الثراء والتمكين! هي الشريانُ الذي يضخُّ الحياةَ والدماءَ في جسدِ السودان. كانتْ وعدًا بحياةٍ أفضل، فصارتْ ساحةَ قتال. إنَّ الشغفَ الأعمى بالمركزية، والإهمالَ المُتعمَّدَ للأطراف، وتكديسَ كلِّ شيءٍ في سلةٍ واحدةٍ، هو ما أذكَى نارَ الصراع، وجعلَ من "ملتقى النيلين" هدفًا أخيرًا للسيطرة، حتى لو كان الثمنُ تدميرَها هي وأهلَها!
الخرطوم، يا وجعَ القلب، ما زالتْ تحملُ سرَّها، سرَّ الجاذبيةِ التي تحولتْ إلى لعنة سرَّ "المركزية القاتلة" الذي حوَّلَ الحُلمَ إلى كابوسٍ لن يُنسى....
اللهم ردنا اليك ردا جميلا وهيىء لنا من أمرنا رشدا.