✍ حسين خوجلي : منادمة الخليل في حديقة البوح الأصيل

قبل وقوع هذه النكبة الصاعقة وقبل أن يدمر هولاء الأوباش أجمل مافي بلادنا من مباني ومعاني كنت أعد العدة في إطلاق 30 سهرة رمضانية كاملة الاحتفاء بفصاحة السودانيين من الصنايعية البسطاء الذين بذرو ا بذور الإبداع في ما يسمى أغنية الحقيبة أو بالأحرى أغنية أم درمان هذه الأغنية التي صنعها وصاغها كل أبناء السودان من شماله وجنوبه وشرقة وغربه ولو كانت عصابة دقلو وحراسها من جنود الشتات يعون أو يستوعبون أويدركون أو يقدرون قصيدة واحدة من هذه الإبدعات لما قتلوا ولما اغتصبوا ولما أحرقوا ولما دمروا ولما أشعلوا في بلادنا الحبيبة المسامحة والمعطاءه كل هذا الكم من القبح والظلامية والكراهية والأفول ( والذي نفسه بغير جمال لايرى في الوجود شيئاً جميلا)
كنا ونحن نكمل إستعدادات النشيد والقصيد ونتحاور في مسمى السهرات هل نواصل في مطر الألوان أم نُجملها بالمسمى الجديد (منادمة الخليل في حديقة الغناء الجميل) أو ( أحلى 90 أغنية حقيبة) أو (الأشعار قبل الأوتار) وقبل أن نحسم فن الإختيار بدَدَ الجراد الصحراوي الأستديوهات وشردوا الأوكسترا والبروفات ومزقوا أوراق الإعداد الملونة وغابت الأصوات الوسيمة غياب النوارس وترحالها صوب الشواطئ البعيدة فهل يا تُرى نجد من جديد زماناً لما ألفناه من أفراح أو نجد مرتعاً ندفن فيه كل بواعث الأتراح أم أن الأمر قد إندثر وهان مثل نهايات أمير الشعراء
مـــا لآحجـــارك صـــما كلمــا
هـاج بـى الشـوق أبت أن تسمعا
كلمــا جئتــك راجعــت الصــبا
فـــأبت أيـــامه أن ترجعـــا
قــد يهــون العمــر إلا سـاعة
وتهـــــون الارض إلا موضـــــعا
ومن حسن حظي الخاص و حسن حظ القلب الجريح و حسن حظ الأعين والأدمع المترعات بالدموع السواكب أن أحد الأصدقاء حمل لي أنابيش من الأوراق التي وجدها في مكتبي المحطم ومن بينها وجدت موضوع هذه الكلمة وهي أبيات القصيد لكل اغنية إخترتها من التسعين ولماذا التسعين لأنني غمرت بدواخلي بيت سلطان العاشقين أبو صلاح عليه الرحمة( الناس جروحهم تسعة وأنا لي جروح تسعين)
1 _وكان أول بيت في القصيد ومقدمة الأغنية الأولى للعبادي التي أسميته في تلك الحلقات المستحيلة ( أمير شعراء الحقيبة)
المكارم خلقي الجبيلة والمحامد سالك سبيله
ديمه شارب من سلسبيله من أخاير أخير قبيله
ومن أعالي العايلة النبيلة وكل صميماً لصميم بديل
الليالي حينه وقِبيلَه للجلل معدود الجليل
2_ أبو صلاح الذي أسميته( سلطان العاشقين) وبيت القصيد في أغنيتة الأولى الجديرة بالإحترام والإحتفاء (أجسامنا لي جسمين)
يامن أسرت فؤادي ملكته في اليدين
ياملفت الأنظار يا ناير الخدين
شيء عجيب في غرامك يافريع ياسمين
نحن الجميع مادمنا قلوبنا متحدين
تبقى الصداقه قرابه ونكسب الودين
3 _وقد أسمينا الشاعر محمد ود الرضي في حلقات أحلي 90 قصيدة حقيبة بمسمى (فقيه شعراء الحقيبة) وقد اخترنا رميته الشهيرة قبل أغنيته ( متي مزاري)
يعايين توبتي في كامن ضميري ويمحن
والشاف فاتن جمالن وانشارن يمحن
قلوباً ما انكون بي نار غرامن قمحن
الله يكبرن الكبرني وسمحن
4 _وقبل كل هؤلاء وبعده الراحل الصوفي المعذب وأستاذ الجيل خليل فرح أفندي صاحب التجديد الأوفى والوحدوي والوحيد في تاريخ الأغنية السودانية شعراً فصيحاً وشعبياً وأناشيداً وأغنيات وقد أسميناه في حلقته بمسمى ( الرائد المؤسس للنشيد والأغنية الوطنية) وكان بيت القصيد
يا بلادي كم فيك حاذق
غير إلااهك ما أمّا رازق
من شعاره دخول المآزق
يتفانى وشرفك تمام
مسرح الغزلان في الحدائق
والشوارع الغر والمضايق
قول لي كيف امسيت دمت رايق
دام هواك مشمول بالنظام
5 _أما سيد عبد العزيز فقد اخترنا له إسم وشعار يستحق حفاوة أم درمان به ( عميد المعاني وشهيد الذكرى) وكان بيت القصيد
مسو نوركم وشوفوا من جبينها صباح
والصباح إن لاح لا فايده في المصباح
هل أتاك حديث الكوكب النضاح
قمرة تمطر خُمرة حارسها الفضاح
لو تحيجنا محاسن شمس للإيضاح
مابتحيجنا محاسن محيها الوضاح
6 _أما رفيق دربه الناطق الرسمي (باسم أهل أم درمان ) عبيدعبد الرحمن هذه الشاعر المدهش الفياض بالمبتكر والمفيد فقد اخترنا بيت القصيد من قصيدته الأشهر
(أفكر فيه واتأمل)
تفاصيل ﻗﻮﻟﻲ ﻭﺍﻟﻤﺠﻤﻞ
ﺳﺄﺻﺒﺮ ﻳﺎﺧﻲ ﺇﻳﻪ ﺃﻋﻤﻞ
ﺇﺫﺍ ﻗﻠﺐ ﺍﻟﻔﺘﻰ ﺇﺗﺤﻤﻞ
ﻣﺼﺎﻳﺐ ﺍﻟﺪﻫﺮ ﻭآﻻﻣﻮ
ﺃﺭﻯ ﺍﻟﺼﺒﺮ ﺍﻟﺠﻤﻴﻞ ﺃﺟﻤﻞ
تذكر عهدنا الأول صحي الأيام بتدول
قريب يوم داك ما طول مضت أيام
ويا حليلن بقت أحلام وتتأول
7 _أما مقاطعة بحري فقد إحتلها بلا منازع الراحل مصطفى بطران الذي اتفقنا علي تسميته( شاعر الطبيعة والمعاني الرفيعة) واخترنا بيت القصيد من رائعته ( دمعة الشوق)
يابديع الزي وأزهر اللون
ياخفيف الروح ياسما الصون
خلقك مولاك زينة للكون
حبب الأرواح في هواك ياجميل
عهدي بيك يا جميل دأبك الحلم
أما هجرك لي نيرّ الظلم
إنت عارف نوع حبي ليك سلمي
شوقي مهما ازداد برضي شايفه قليل
8_أما إقليم كردفان الغرة (أم خيراً جوه وبره )رد الله غربتها فقد كان الحاكم الإبداعي لها وممثل الحقيبة فيها ( الصناعي) الأمي والذي اخترنا له أسم لا لقب ولا كنية ( حاكم إقليم كردفان ) بسلطة الإمتاع والإبداع أما بيت القصيد فقد اخترنا من رائعته (إنت حكمة)
إنت حكمة إنت آية ولا إنسان؟
إنت صاحي ولا نايم
ولا طرفك من طبعو نعسان؟
إنت شادن إنت لادن إنت فتان
إنت ضامر إنت سامر إنت هتان
إنت نادر إنت ناضر إنت بستان
إنت صافى إنت نافى زور وبهتان
9_ أما شاطي النيل الجميل من المقرن حتى الجيلي مروراً ببيت المال وأبروف والملازمين وودنوباوي ومدينة النيل والزواهر الأخريات فقد اخترنا لها عتيق المعتق والممثل الشرعي للنهر الخالد وساكني الشواطئ سيداً وحاكماً بأمره الذي يُسمى ( أستاذ التجديد في رياض القصيد) أما رائعته فكان بيت القصيد فيها (قوم نرتشف خمر الهوى)
الطقس معتدل الهوى
قوام ياحبيب نَمُر سوا
في خميلة والعالم نيام
الروض حِلا وبسم الزهر
والبدر في أفقُه إزدهر
مضى إسمه في سطح النهر
والقمري يهتف بإهتمام
من كل فن يبدي ويعيد
على شاطئ أبروف يا عتيق
10_ولأدبه الجم في الخلق والإبداع وحسن السيرة والسريرة تم اختياره بالخرطوم في القضاء الشعبي ومحاكم العُمَد التي كانت تسعد بالفقه والقضاء المدني والشرعي كان الراحل أحمد حسين العمرابي مُقِلا ومجيداً وقد إشتهرت رائعته (أندب حظي) و(خمرة هواك يا مي) وقد اخترنا بيت القصيد
قلبي المن الوساوس خالي
واليوم إنشغل يا خالي
لو كان في اللحد إدخالي
أحلي من العذاب يا خالي
دوام آيات محاسنك تالي
زيد في هجري لا ترتالي
مُقسم عن هواك ما تالي
طرفك بالهلاك أفتالي
حبك كاتمو زاد إنحالي
من فرطو الدموع فاضحالي
الشاقني و مغير حالي
حسنك و اللهيج الحالي
هاك شكوايا لو تصغالي
العدو حن لي رقالي
سهران و الدموع أشغالي
وحياة حبي ليك يا غالي.
_11 أما الوسط المهال بكل عمقه وصفاءه ووسطيته واعتداله فقد اخترنا له علي المساح الذي أسميناه (مساح دمع البكا) وهو الممثل الشرعي والموثوق به للحقيبة بالجزيرة أما أبيات القصيد فقد اخترناها من رائعته ( غصن الرياض المايد ) التي غنى بها ابن الشُلك وأجاد رمضان زايد
يا خُلاصة الحواري الـمِنْ جِنان وخوالد
حُسنك ليك يدُوم لا أم تلِد لا والد
رافِل في ظلال مَجْد الطريف التالِد
يا الـلّابس العَفاف حِلية وعقُود وقلايد
عانيت في ليالي هواك ظرُوف واحايد
مشكلة بين هواي وجفَاك وإنت مُحايد
بَسْ ما ذنبي غير صُغت النّشيد ونشايد
في مَدْحك بنيت قَصر الرّشيد الشايد
12_من شعر الحقيبة الذي كان يتضوعُ عطراً شعر أحمد عبد الرحيم العمري الذي ضاع ( شذىً ونسياناً وذكرى) فقد كان العمري عليه الرحمة من الذين يحتفون بحزنهم أكثر من شعرهم ولكن حتى الذي وجدناه بين أيدينا أضاء لنا بكمال الحسن وكريم الأخلاق سيرة الرجل ( إبن العائلة النبيلة) ومنها رائعته (يا الهواكم بيقي جريمة) و(الشويدن روض الجنان) ومنها اخترنا بيت القصيد
يا الشـويدن روض الجِـنان بي هــواك ازداد الجِـنان
يا اب نغيماً حـالي السنان فـرَّ لحظو وفَـرَد السِنان
قُتْلو حاسِب قالْ لـيَّا نان كيف أكون ذو جَبْرَة وحنان
13_ما انفك النزاع قائماً حتى يوم الناس هذا ما بين شرق الجزيرة والبطانة ونهر النيل وأم درمان وهم يتشاكسون حول هوية الشاعر الشادن عمر البنا حتى أفتى في الأمر شاعرنا مبارك المغربي الذي قطع في الأمر قائلاً بأن عمر البنا غيث من البادية وعِطر من البنادر ودُعاش عابر على الغابات والأزاهير والشلالات والوجوه النواضر وقد احتفت حارات أم درمان بعمر البنا شاعراً ومغنياً ومع جِده وأبيه وإخوانه وأحفاده ومن هذا المعين أورثت عائلة البنا السودان أصواتاً وألواناً وأشعاراً كفكفت بها الأدمع وزينت مُحيا الصبيان والصبايا بأهازيج الفرح القادم وضجت به أروقه العشاق والشهداء والمحاربين ومن (إمتي أرجع لامدر واعودا) اخترنا أبيات القصيد
إمتي ارجع لامدر واعودا
واشوف نعيم دنيتي وسعودا
إمتي تلمع بروق رعودا
حظوظي تنجز لي وعودا
روحي ضاعت في النار قُعُودا
لي هون يا ربي عُودَة
14 _ أما ختام المسك وغاية المنى والمنتهى كان عبد الرحمن الريح هذا المبدع الذي جعل أهل الحقائق والرقائق أدنى ما في تعريفه أنه قامة تقوم مقام معهد أو جامعة كاملة وشاملة للشعر والموسيقى والنشيد والنداوة والفكر والرؤى عبد الرحمن الريح الذي حمل على أكتافه كل أحزان أم درمان من لدن كرري عابراً بها صحارى التداوى والصبر الجميل و كل أودية الأتراح والدماء ودموع الثاكلات وجراح المقاتلين والمناضلين والمجاهدين عبدالرحمن الريح قام بتسويق الجميلات حيث كان الزواج يومها فرض عين بعد رحيل الرجال في معارك الشرف الوطني وطموحات المهدية وأطماعها ، أغنيات عبد الرحمن الريح كانت أكبر ساحة لتسويق الحلال ومحاربة التخلخل السكاني ما بعد الثورات حقيبة وعبوراً من الحزن والشجن إلى الفرح والزهو بالإنسان وبشريات السوادان الشامخ الذي ستلده الليالي وترعاه الأيام الخضر الحافلات بالمنى والنماء والمكرمات وبيت القصيد اخترناه من قصيدته (الزمان زمانك) وصِدقاً فإن الزمان زمانه
يا الفريد في عصرك قلبي فاقد أمانك
حرام عليك تهجرني وترضى بحرمانك
بالكمال شرّفت مواطن امدرمانك
وبالجمال امتزت على شباب ازمانك
يا أنيس الصيد أنا في الغرام إنسانك
انت روح شعري وأنا في الشعر حسانك
إن قصدت هلاكي تجدني من فرسانك
وان عطفت علىّ فذاك من إحسانك
خاتمة
وغداً رغم أنف النكبة سنقوم بترميم الكمنجات المحطمة ويُحسن المنشِدون مِران الأصوات على الجميلة وتكتسي الساحات الخُضر بابتدار الألحان والأفكار والأشعار ويكتملُ سهر الشوق في العيون الجميلة ويرفع المخرج يده وتشرق قناة أم درمان من جديد.