رؤية جديدة السودان

✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ والدتي والعودة إلى الديار

-

في عيني والدتي يسكن وطنٌ كامل، وطنٌ فقد ملامحه تحت ركام الحرب، لكنه ما زال حياً في ذاكرتها كما كان — نيلًا هادئًا، وساحاتٍ عامرة، ووجوهًا تُشبه الصباح. كلما ذُكرت الديار، تلمع عيناها بشوقٍ لا يهدأ، كأنها تحمل بين أهدابها خريطة العودة التي لم تكتمل بعد.امالها واحلامها ان تسمع خبر عبر شاشة تلفزيون السودان وهي تتابع باهتمام نشرات الاخبار عن حال الوطن وسؤالها عن الاسواق عن الحي عن عوده الناس عن الجيران وسؤال ياتري كيف حال الدار وحنينها له رغم فقد زوجها قبل الحرب بقليل فهي تري انها تركت جزء من تاريخها وزكرياتها بعد الحرب، لم يعد البيت مجرد جدرانٍ مهدمة أو أطلالٍ صامتة، بل صار رمزًا لحياةٍ انكسرت وتنتظر لَمّ شتاتها. والدتي تتحدث عن العودة كما يتحدث المؤمن عن الجنة؛ بصبرٍ وأملٍ ويقينٍ أن اللقاء قادم لا محالة. كل صباح، تُعدّ شاي الصباح وتجلس تنظر إلى الأفق، كأنها تنتظر أن يأتيها خبرٌ بأن الديار استعادت سلامها.

حنينها ليس مجرد عاطفة أمٍ اشتاقت للمكان، بل هو وجع وطنٍ كامل يسكن قلب امرأة عاشت تفاصيله — فرحه وأمانه، وحزنه ودماره. في كلماتها تختبئ دعوات الليل الطويلة، أن يعود الناس كما كانوا، وأن تُفتح الأبواب مرة أخرى للضحكات والزيارات.

حين تتحدث عن الديار، تُعيد إلينا معنى الانتماء، وتذكرنا أن الوطن لا يُقاس بمساحته، بل بما يتركه في أرواحنا من أثر. ربما تطول الحرب، وربما تتبدل الوجوه، لكن حنين الأمهات سيبقى هو الجسر الذي يعيدنا إلى حيث بدأ كل شيء — إلى الديار التي تسكن القلب مهما ابتعدنا عنها.

وفي ملامح والدتي أرى صورة السودان، ذلك الوطن الجريح الذي ما زال ينزف ويبتسم في آنٍ واحد. حنينها للديار يشبه نبض الأرض حين تستعد لربيعٍ جديد، رغم ما خلفته الحرب من وجعٍ ودمار. كمؤمنٍ بوعد الفجر، تهمس كل مساء: “سيرجع السودان كما كان، وستُضاء البيوت من جديد.”

وفي دعائها الدافئ نُدرك أن الأوطان لا تموت، ما دامت في قلب أمٍ ما زالت تؤمن بالعودة، وتنتظر اليوم الذي تحتضن فيه تراب الديار وتقول عاد السلام، وعدنا إلى وطننا الجميل. لكنني اختم دوما بان سودان مابعد الحرب اقوي واجمل