رؤية جديدة السودان

✍ إبراهيم عثمان : المجازر كمانح ومانع للشرعية!

-

من الإمارات حيث يقيم خالد عمر، وحيث يقيم منعم سليمان ويعد برنامجه المتخصص في تجميل الميليشيا وتشويه خصومها، أطل علينا خالد عمر يوسف، وعندما استمعت لقوله عن الفاشر: (طبعاً بكل تأكيد "الحدث المزلزل" دا عندو حيكون تأثيرات كبيرة على المسار السياسي بتاع البلد يعني) ظننت أنه سيتحدث عن التأثير السياسي الذي سيحدثه احتلال الميليشيا لمدينة الفاشر، أوحى لي بهذا بداية قوله بـ "طبعاً" و"بكل تأكيد"، لكن فجأة وبدون مقدمات، وبذات المقدمات التي تقود لهذا التفكير، ذهب إلى الحديث عن خصومه وخصوم الميليشيا!

١. قال: (للأسف الشديد يعني الأحداث الكبيرة التي حدثت بعد الفاشر الآن في ناس عاوزين يستخدموها عشان يقتلوا فرص العملية السياسية)، وهنا يُلاحَظ أن تركيزه على "العملية السياسية" التي تعيده إلى السلطة لا على المجازر، وأن غضبه من خصوم الميليشيا أكبر من غضبه من مرتكبي المجازر، فقد مر على مجازرهم سريعاً، وبجملة واحدة، وسماها تلطيفاً (الأحداث الكبيرة) وتجنب ذكر فاعلها! وأضاف: (وديل حقيقةً يا منعم هم تجار دماء يعني، كل ما يُسكَب دم في السودان بطلعوا عشان يتاجروا بيهو عشان تستمر الحرب). وهنا يُلاحَظ أنه استخدم صيغة المبني للمجهول "يُسكَب" دون أن يسمي الميليشيا، ودون أن يطلق عليها أي وصف قدحي! وأضاف: (لأنو عندهم مصلحة في الحرب بدون الوصول للخلاصة الأساسية إنو لا حل عسكري للنزاع في السودان). ويُلاحظ استثماره لمجازر الفاشر لتدعيم وجهة نظره القائلة بأنه لا يمكن هزيمة الميليشيا، وتقديمها "كخلاصة أساسية" على الجميع التسليم بها معه!

٢. عندما يقول حمدوك وخالد عمر المقيمان في الإمارات: (لا حل عسكري للنزاع) لا يمكن فهم قولهما إلا بمعنى (لا هزيمة للميليشيا)، وإلا بتكملة محتفى بها لكنها غير ملفوظة: ( .. في ظل استمرار الدعم الإماراتي لها)! وعندما تشدد الإمارات على: (لا حل عسكري للنزاع)، الذي يعني لا هزيمة للميليشيا، سيكون من السذاجة أخذ تشديدها على أنه خالٕ من التهديد الضمني: (لا توقف لدعمنا لها)!

٣. بمنطقه في المقابلة يقر خالد عمر بالفرق الرئيسي بينهم وبين الآخرين فيما يتعلق بالموقف من مجازر الميليشيا، وهو أنهم في "صمود" ــ على عكس الآخرين ــ يتبنون "إدانة مرشَّدة"، بمعنى إدانة للجريمة فقط، ولا تتعداها إلى الميليشيا نفسها والموقف السياسي منها، فعندهم كلما ارتكبت الميليشيا مجزرةً كلما تأهلت أكثر للتفاوض، وكلما كانت المجزرة أكبر كان التنازل المطلوب لها أكبر، وكلما أمعنت في إثبات أن المجازر أصبحت عندها سلوكاً منهجياً، كلما أدى هذا في نظرهم إلى تجريم من لا يفاوضونها بالشروط التي ترضيها، لأنهم لم يوقفوا جرائمها بتقديم التنازلات اللازمة لها!

٤. منذ بداية التمرد ما اضطر خالد عمر يوسف للتعليق على مجزرة من مجازر الميليشيا إلا وخصص الجزء الأكبر من تعليقه لإدانة خصومها وخصومه، وهذا هو بالضبط ما فعله في المقابلة وفي مقال نشره عن جرائم الميليشيا في الفاشر. فقد خصص الجزء الأول من المقال للجرائم (٥١ كلمة) والأجزاء التالية (١٦١ كلمة) للهجوم على الخصوم! وقد ركز في توصيفه للجرائم على الفعل المجرد، متجنباً التوصيف السلبي للميليشيا ككيان. وقصر المطالبة بالمحاسبة على "مرتكبيها" تحديداً، وكأن الجرائم حالات فردية منفصلة عن قيادة الميليشيا التي يتعامل معها وكأنها مؤهلة لمحاسبة أفرادها، وكأن المطالبات السابقة لقيادة الميليشيا منذ بداية التمرد قد وجدت استجابة!

٥. في مقاله حوَّل (الدماء الغزيرة المسكوبة والآلام العظيمة) من أدلة إدانة دامغة ضد الميليشيا، إلى رأس مال عاطفي وأخلاقي يستخدمه للضغط على الضحايا أنفسهم. فبدلاً من أن تكون المأساة حافزاً للمقاومة، يصورها كسبب للاستسلام، قائلاً: (يجب أن تكون لحظة كاشفة تزيل الغشاوة عن الأعين والعقول), فرسالته واضحة: طالما استمرت الحرب ستستمر الميليشيا في الإجرام، فلتزيلوا الغشاوة عن أعينكم، ولتستجيبوا لضغط الإجرام، ولتقدموا التنازلات للميليشيا!

٦. أضاف: (دعاة الحرب لا تهمهم هذه الانتهاكات بل تسعدهم، فهي الوقود الذي يأججون به الاستمرار في حرب الإجرام المكتمل هذه). بينما الحقيقة أن من يسميهم "دعاة الحرب" هم ضحايا مجازر الميليشيا من عسكريين ومدنيين، فكيف يفرح الناس بالإجرام الذي يقع عليهم؟ وكيف لميليشيا تشن حرب "الإجرام المكتمل" أن تجد شرعية تؤهلها للتفاوض بالشروط التي ترضيها؟ بل كيف تستمد هذه الشرعية من ضغط الإجرام نفسه؟ والأكثر إدهاشاً أنه بينما اتهم خصوم الميليشيا بـ"السعادة" بالجرائم، امتنع عن وصف حالة المجرمين أنفسهم لحظة ارتكابهم المجازر، وما يظهرونه من سعادة، والمؤكد أنه قد شاهد الفيديوهات!

٧. ارتكز في مقاله ومقابلته على "مغالطة السببية العكسية"، إذ قام بعكس العلاقة المنطقية بين الجريمة والرفض. فبدلاً من أن تكون الميليشيا مرفوضة لأنها تحارب المدنيين، يقدمها على النقيض: الميليشيا تحارب المدنيين لأنها مرفوضة، وإيقاف الحرب على المدنيين لن يحدث إلا بقبول الميليشيا وتقديم التنازلات لها، ومن لا يقبلونها ولا يتنازلون يشاركون جنودها ــ لا قادتها ولا كيانها ــ المسؤولية! وهو هنا يستغل العاطفة الجياشة حيال المأساة لاختطاف وعي الناس فيحشده عاطفياً عبر صور الدماء والجراح، ثم يقوده من التأثّر إلى الامتثال، ناقلاً مركز الإدانة من المجازر إلى موقف خصوم الميليشيا منها! ومن الجزار (الميليشيا) إلى الحرب، وعبر الحرب إلى الخصوم باعتبار أن الحرب عنده هي حربهم!

٨. ثم راح في المقابلة والمقال يعدد المبادرات التي لبت شروط الميليشيا ووجدت قبولها، وقال (من أفسدوا هذه الفرص وتراقصوا فرحاً لافشالها وزايدوا على كل عمل على نجاحها، هم شركاء في جرم كل قطرة دم تُسكَب في أي شبر من بلادنا المكلومة). بذلك تكون الميليشيا ككيان، وكذلك قيادتها، ليست شريكاً للمجرمين من جنودها ــ والحقيقة كل جنودها مجرمون ــ بينما خصوم الميليشيا شركاء لهم! وبينما من لم يتركوا حجةً لتبرير عدم تنفيذ إعلان جدة يقدمون نفسهم حكماً أخلاقياً يقدم المواعظ عن التفاوض!

٩. قال في المقال: (فلتتحد أصوات كافة أهل السودان للدعوة والعمل للسلام العاجل العادل المنصف). بينما "العدل والانصاف" لا يؤهلان الميليشيا صاحبة "حرب الإجرام المكتمل" لأي "مكاسب" تحصل عليها عبر التفاوض كما تريد ويريد!

١٠. ختم مقاله بقوله: (ولنحاصر ونواجه كل من يعوق الوصول لذلك، فجسد بلادنا المثخن بالجراح ما عاد يقوى على تحمل هذا الكرب العظيم الذي ألم به)، وهذه هي رسالة المقال: لا دعوة لمحاصرة ومواجهة الميليشيا التي تصنع "الكرب العظيم"، بل دعوة ليكون إجرامها دافعاً وحافزاً للتفاوض معها بالطريقة التي ترضيها، و"لحصار ومواجهة" خصومها، وهم كل رافضيها!

لم يقدم خالد عمر تحليلاً للوضع بقدر ما سعى لشرعنة التنازل عبر تبرئة الميليشيا "ككيان"، وتحويل الإدانة الرئيسية إلى "الكيانات" المخاصمة لها، وقلب السببية، وتزييف المعايير الأخلاقية، وخلق مناخ قانوني ونفسي مضاد لمساءلة الميليشيا وقيادتها، ويحول المجازر إلى شرعية تفاوضية للميليشيا، وينزع الشرعية عن رافضيها ويوجب "حصارهم ومواجهتهم"!