رؤية جديدة السودان

✍ عثمان الكباشي : عمار محمد آدم ؛ رجل نادر على طريقته

-

استلف اليوم عنوان الروائي الطيب صالح في حكاية منسي ، ربما يفسر حالة الراحل الموهوب المرحوم عمار محمد آدم.

أول ما رأيناه في الثمانينات ونحن في المرحلة الثانوية ، شاب يصول ويجول كأسد هصور أمام المظاهرات ، شاب يمتلأ فتوة وإقدام ، يجترح الشعارات والهتافات ويصدع بها بحنجرته المميزة ، فتخرج مسبوكة معبرة عن قومه ، فتعيش عشرات السنين، صالحة ، طازجة ، ترثها الأجيال، وإن تحول عنها قائلها وخاصمها، وفي ذلك عبرة وتأمل .

عرفته منذ ذلك الحين وأحببته ، ومن نعم الله على أنني إذا أحببت شخصا يصعب على أن أبدل حبه مهما كانت التقلبات ، حتى أنني أرى ذلك أحيانا عاطفة سالبة أحاول إصلاحها في نفسي ، وقد أنجح في ذلك في أحوال نادرة .

ثم لما مضت الدنيا بتقلباتها ، كنت أرى عمار درويشا بحق ، و أتذكر تعظيم الصوفية لمقام الدروشة بقولهم أن الكون كله فيه درويش ونصف ، أقول في نفسي : يا ترى هل عمار هو هذا النصف ؟!.

لا أبالغ فأدعي بأنني كنت سعيدا دائما بتصرفاته وأقواله ، ولكنني وإن غضبت من بعضها إلا أنني أجد له العذر دائما ، وهكذا أحوال المحبين .

الناس كلها تعرف أن عمار استطاع ترويض معارفه المحبين منهم والشانئين على عدم الركون إلى حالة ثابتة في أحواله ومواقفه .

وبهذا فعليهم الاستعداد لتلقي ما يصدر عنه ، لا يهمه أن يسرهم أو يسوءهم ما يقول ويفعل ، وبهذا طوع الناس على النظر إليه كما الدنيا لا تصفو دائما ولا تعكر أبدا ، وإنما تضحك وتبكي .

فهل كان الرجل عليه رحمة الله ينطلق في ذلك من حالة فلسفية عميقة أم هى تجليات الروح وتقلبات النفس ، بما يشبه طبيعة الدنيا وحقيقتها ، أدرك ذلك من أدرك وجهل من جهل ؟ .

أم هى مقامات ( الملامتية) التي لا يطيقها أهل الظاهر محقين ولا يتنازل عنها أهلها متأولين ؟ .

عمار عليه رحمة الله موهوب ، أهله ذكاؤه ليلتحق بكلية الآداب جامعة الخرطوم ، ولكن بعض الأذكياء لا يحتملون الانتظام الرتيب ، فترهقهم عقولهم المتوهجة، وتستفزهم إلى ماهو أبعد من قيود الشهادات والروتين مهما التزم طريقها و تقيد وانصاع له أهل الانتظام.

عمار عليه رحمة الله شاعر بالفصحى والعامية ، متمكن فصيح ، بليغ ، مجيد ، في شعره جزالة وقوة معنى وصدق مشاعر ،

وأثر طروب واضح من بيئة ولسان أهله الشايقية .

رحم الله عمار فقد كان حالة آنست الناس من كل المشارب .

بدأ منتظما في الحركة الاسلامية ، ولبس الأحمر في يوم مؤتمر الحزب الشيوعي، أعطى الاتحاديين ، خاصة شيخ الطريقة الختمية نصيبهم من ولاء أهله التاريخي لهم ، ذكر السيد الصادق المهدي و الأنصار بخير ، هاجم الإنقاذ وعارضها ، وحينما سقطت لم يعطي خصومها بغيتهم ليكون شاهد ملك عليها ، بل أحرجهم وفضح محاولاتهم شراء موقفه ، عارض قحت واقتحم منابرها يقول كلمته ثم يمضي .

العجب أنه فعل كل ذلك في توازن وتصالح مع النفس ، لايهمه إن سهر الخلق جراء قوله واختصموا. فهل كان يقصد أن يعلمنا بأن الكيانات وإن بدت مختلفة ما هى إلا مذاهب لا أحد فيها يحتكر الحقيقه كلها ، وإنما هى اجتهادات في كل واحد منها بعض الحق وبعض الخطأ ، يؤخذ منه ويرد ؟ أم ذلك من باب سخريته من كل شي ، أم هو قلق الشعراء و الفلاسفة ؟ أم هو بحث عن الحق على طريقة منهج سيدنا إبراهيم عليه السلام؟ أم كل هذا وذاك ؟

رحم الله الأخ عمار محمد آدم وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنة وأحسن عزاء أسرته الصغيرة والكبيرة وعزاء المجتمع السوداني وأبدله بحياة الهناء والراحة والسرور وبارك في ذريته وألهمهم الصبر الجميل.