✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ الصراع الدولي على السودان إلى متي؟

بعد حرب الكرامة التي شكّلت محطة فارقة في تاريخ السودان الحديث، برزت حدة الصراع الدولي على السودان بشكل غير مسبوق، إذ تحوّل السودان إلى ساحة تتقاطع فيها المصالح الإقليمية والدولية. فالموقع الجغرافي الاستراتيجي، وثرواته الطبيعية الغنية، وأهميته في أمن البحر الأحمر والقرن الأفريقي، جعلت القوى الكبرى تتنافس على النفوذ داخله تحت شعارات مختلفة. هذا التزاحم الدولي، وإن اتخذ في ظاهره أبعادًا إنسانية أو سياسية، إلا أنه في جوهره يعكس صراع المصالح ومحاولات رسم ملامح مستقبل السودان بما يخدم أجندات الخارج أكثر مما يخدم تطلعات الشعب السوداني نحو الاستقرار والسيادة والتنمية.
منذ فجر الاستقلال، ظل السودان رقعةً تتقاطع عندها مصالح العالم، لا لشيء سوى لأنه يمتلك ما يجعل القوى الكبرى تتنازعه طمعًا ورغبةً في السيطرة. موقعه الجغرافي الفريد، وموارده الطبيعية الهائلة، وسواحل البحر الأحمر، جعلته قلبًا نابضًا في معادلة الأمن الإفريقي والعربي، ومحورًا لا يمكن تجاوزه في توازنات المنطقة.
لكن ما زال السؤال المؤلم يتردد: إلى متى يظل السودان ميدانًا للصراع الدولي؟
في زمنٍ تتغير فيه خرائط النفوذ بسرعة، أصبح السودان محور تنافس بين القوى الكبرى.
فالولايات المتحدة تسعى لترسيخ نفوذها عبر مشاريع "التحول الديمقراطي"، وتحاول ضبط إيقاع السياسة السودانية بما يتوافق مع مصالحها في البحر الأحمر والقرن الإفريقي.
أما روسيا، فترى في السودان بوابةً استراتيجية للنفوذ العسكري نحو إفريقيا، عبر حلم القاعدة البحرية في بورتسودان.
بينما تمد الصين أذرعها الاقتصادية بهدوء، لتكون شريكًا في التنمية من دون ضجيجٍ سياسي، لكنها لا تخفي اهتمامها بثروات السودان المعدنية والزراعية.
ولم تقف الأطماع عند القوى العالمية فقط، بل تمددت أيضًا إلى الإقليم.
فمصر تراقب النيل بقلقٍ عميق، والإمارات والسعودية تبحثان عن موانئ ومصالح اقتصادية طويلة الأمد، وإثيوبيا لا تزال تنظر إلى السودان كعمقٍ مؤثر في صراعها حول المياه والحدود.
وسط كل هذا التشابك، ظلّ السودان يعاني من ضعف في مؤسساته الوطنية، وانقسام في صفوف نُخبه، وصراع داخلي أتاح للأطراف الخارجية فرصة التغلغل والتأثير.
فحين يغيب المشروع الوطني الموحد، تصبح البلاد فريسة سهلة، وتتحول المواقف السياسية إلى انعكاسٍ لتجاذبات خارجية أكثر منها رؤى وطنية خالصة.
إن الصراع الدولي على السودان لن يتوقف ما دام القرار الوطني مرتهنًا، وما دام أبناء السودان مختلفين على من يقود السفينة.
فالعالم لا يرحم الدول الضعيفة، ولا يحترم الشعوب المنقسمة، ولا يمنح السيادة لمن لا يحميها.
السودان اليوم بحاجة إلى وعي جمعي جديد، يضع مصلحة الوطن فوق كل الانتماءات، ويؤمن أن الاستقلال الحقيقي لا يُقاس برفع العلم فقط، بل بقدرتنا على اتخاذ القرار بأنفسنا.
سيظل السودان هدفًا للأطماع ما لم ننهض نحن بإرادتنا.
حين يتوحد أبناؤه حول كلمة سواء، وحين يعلو صوت الوطن على كل صوت، حينها فقط سيعرف العالم أن السودان ليس ساحةً للآخرين، بل دولة صاحبة قرارٍ وسيادة.
لن يتوقف الصراع الدولي علينا، إلا عندما نتوقف نحن عن أن نكون ساحةً له. وسودان مابعد الحرب اقوي واجمل

