رؤية جديدة السودان

✍ آمنة السيدح : تنظير ؛ الفاشر .. ”لست وحدك”

-

كثيرا ما ساقتنا الظروف لعزاء في صالات المناسبات، ولكن لم يكن ذلك العزاء الذي كان مكانه صالة مسجد الأبيض بمصر مجرد تجمع تقليدي، كان أشبه بقلبٍ سوداني كبير يخفق بالحزن، يتشارك النبض والدمعة والتنهيدة على حزن كبير لا يريد ان ينكمش.

سادتي وقف السلطان د. عثمان محمد يوسف كبر وأعضاء المشروع السوداني للسلام الإجتماعي وثلة كريمة من قيادات أهل السودان ومن رموز دارفور عند تلقي العزاء في شهداء مدينة الفاشر، كلهم جاءوا يحملون الفاشر بين أضلاعهم؛ مدينة جريحة تبحث عن يد تربت على كتفها، مدينة استطاعت أن تيغظ ضمير العالم فحولت نصر المليشيا لهزيمة نكرا يدفع ثمنها من قاموا بها وكل داعميهم.

سادتي كان المشهد مفعماً بالإنسانية، وجوه منهكة لكنها ثابتة ودموع محبوسة وصوت واحد يردّد "مصابكم مصابنا"، وما وقع عليكم وقع على السودان كله، ففي كل بيت سوداني كانت هناك مساحة كبيرة للصمت والحزن.

سادتي تحدث الكبار بوقار وبعمق، وأرسلوا رسائل كثيرة ومحرجة للعالم، وبالطبع كان لحديث النساء صدا أكثر وجعاً، حيث تقدمتهن د. قمر هباني تحدثت بصوتٍ يحمل ثقل ما رأت، تحدّثت عن أمهات يبحثن عن أبنائهن، عن نساءٍ حملن أطفالهن وفررن بين الدموع، عن ليالٍ بلا نوم، وعن خوف لا يزال ساكناً في الأجساد، كان حديثها يلامس العظم قبل القلب ويطلق العنان للدموع بدون إستئذان.

ووسط هذا الألم كانت هناك أسئلة تقف كحجارة ثقيلة:

لماذا تُمنع المنظمات الإنسانية من دخول الفاشر؟

لماذا تُحجب الكاميرات عن مدينة تصرخ؟

كيف يُترك هذا الكم الهائل من البشر محاصرين بلا ماء ولا دواء ولا غذاء؟

أسئلة تُشبه نداء استغاثة، لا ينبغي أن يضيع في الصمت.

لكن، رغم كل ذلك كان في العزاء شيء لا يشترى، كان هناك تماسك،

كان هناك إيمان، وكان هناك ذلك الإحساس السوداني النبيل الذي يجعل الناس يلتفون حول بعضهم دون دعوة.

قال أحد الشيوخ جملة بقيت عالقة في الأذهان:

"الشهيد عند الله حيّ، ونحن أحياء بقدر ما تحمل قلوبنا من صدق لأهلنا".

سادتي.. لم يكن العزاء مجرد كلمات بل كان رسالة، نعم رسالة تقول إن الفاشر ليست مدينة بعيدة في غرب البلاد إنها أم لآلاف الأبناء وبنت لعشرات القبائل ورمز لوطن كامل، وإن ما حدث فيها جرح إنساني قبل أن يكون سياسيا أو عسكريا.

سلامٌ على الفاشر.

سلامٌ على شهدائها.

وسلامٌ على قلب كل سوداني حمل هذا الألم بصمتٍ ونُبل، واسقطت كل دعاوى العنصرية فقد جمعت أهل السودان في قلب رجل واحد.