✍ د. ماجد السر عثمان : مراسي الخرطوم تشرق من تحت الرماد (11) ملحمة (الرُكُوبة)

خرج الناس من ديارهم مذعورين، لا يلوون على شيء، تحت وطأة المليشيا الغاشمة التي اجتاحت البيوت، وكسرت حرمة الأمان. هرولوا دون وجهة، تتلقفهم الطرقات، وتضمهم القرى البعيدة، وتسترهم ورقة من شجر التوت في المنافي، ودول المهجر.
كان همهم الأول النجاة، لا متاع معهم سوى الخوف، ولا زاد سوى الرجاء.
وبفضل الله، ثم بصمود قوات شعبنا المسلحة ومسانديها من الشرفاء، تحقق النصر، وعاد الأمن إلى ربوعنا، يخطو على استحياء بين الركام.
لكن الخوف، كما أنه يهدم، يصنع المعجزات.
فحين اطمأن الناس، نظروا في حالهم وسألوا أنفسهم السؤال الذي طالما تهرّبوا منه:
كيف وصلنا إلى هنا؟ وكيف نعود؟
لقد خرجنا مُرغمين، وها نحن نفكر في العودة، لا بدافع الحنين فقط، بل لإعادة بناء ما تهدّم، وإحياء ما مات فينا من عزيمة.
ولكن الحياة لا ترحم، وضيق ذات اليد، وفعل التهجير، وتجفيف الموارد، وإفقار المليشيا للناس، جعل من العودة ملحمة حقيقية، لا تقل شأناً عن معركة التكايا التي أطْعمت الجائعين.
فإن كانت التكايا تُطعِم وتدفئ، فإن الرُكُوبة تُعيد الناس إلى بيوتهم آمنين مطمئنين.
الرُكُوبة ليست مجرد وسيلة نقل، بل رمز للحماية، والمساعدة، والتكاتف المجتمعي.
هي جسر بين النزوح والعودة، بين الغربة والانتماء.
ولأجل ذلك، ينبغي أن يتداعى رجال المال والأعمال، والمؤسسات الوطنية، والشركات الكبرى، بمبادرة من الحكومة، لتفعيل بند المسؤولية المجتمعية على أرض الواقع، لا في التقارير فقط.
لقد بدأت بعض المبادرات بالفعل، وعلى رأسها منظومة الصناعات الدفاعية وبعض الأفراد الغيورين، الذين قدموا ما استطاعوا في صمت وجدارة.
ويجب البناء على تجربتهم، وتوسيع الدائرة، كي لا يُترك الناس وحدهم في هذه المعركة النبيلة.
فلنحرص على أن يعود الناس معززين مكرمين، لا كما خرجوا في مشاهد الفزع والانكسار.
أتمنى أن تجد ملحمة الرُكُوبة من الزخم والدعم، ما وجدته معركة الاستوزار من سعي ومثابرة.
فالعودة ليست مجرد حركة جسد، بل كرامة وطن.