✍ عزمي عبد الرازق : أين تسهر هذا المساء ؟

مساء اليوم كنتُ أتجاذب أطراف الحديث مع صديق نازح من أبناء السجانة، طفنا معاً في ظلال تجربة عثمان حسين، ابن ذلك الحي الخرطومي القديم. تأكد لي وله أن ما يجعلنا نتشبث أكثر بهذا الوطن الأسمر الجميل هو أغاني أبو عفان، بألحانها الموسيقية العذبة، ومقدماتها التصويرية البديعة.
تعرفتُ أكثر إلى أغاني عثمان حسين في برنامج إذاعي قديم اسمه "أوتار الليل"، أذكره جيداً، كان يقدمه الإعلامي القدير عمر الجزلي، وينتقي فيه ألحاناً للكابلي ووردي وعثمان حسين. ذلك العبقري الذي بدأ حياته الفنية عازفاً في فرقة عبد الحميد يوسف. لا أحد بمقدوره أن يتخيل أن تبلغ طاقة العبقرية عنده تطويع كلمات التجاني يوسف بشير: "أنتٓ يا نيل يا سليل الفراديس ملء أوفاضك الجلال فمرحى". وكم يأخذك بموهبته فتشعر كما لو أنه يُطرز الألحان على ذات الكيفية التي يُطرز بها ملابسه، وهو "الترزي" الشهير في أنحاء الخرطوم. انظر إلى هذه الأزياء الأنيقة التي يظهر بها عادة. ولذلك، تجده في أغنية "بعد الصبر" يعرف كيف يطوّع كلمات بازرعة، الذي تغنى له أكثر من غيره، وجمعتهما ثنائية لن يجود الزمان بمثلها. ويكمن السر، وفقاً لأبو عفان، في "القافية المستعملة لبازرعة، وهي تتطابق وتتفاعل بها الملكات عند الفنان". والمدهش في بازرعة بٌعده عن الوطن، دون أن يتخلي عنه أو يفشل في تخيله، لقد تاه لنحو أربعين عاماً في ساحل جدة، يالها هجرة طويلة حرفياً على شاعر رقيق لا يطيق الفراق!
في حقبة ما بعد الاستقلال، وتحديداً انطلاق "دولة 56"، ظهرت الأغاني الخفيفة الراقصة، فرحاً بالتحرر، وكان عثمان قد وجد ضالته في السر دوليب، وذاعت بينهما بعض الأغاني، منها ما بصدقكم "لو قلتوا حبيبي سلاني ودع حبي ونساني ما بصدقكم". لكن تظل ثنائية بازرعة وأبو عفان هي الأجمل. وقد ذكر المؤرخ الفني نادر أحمد شريف في كتابه عن عثمان حسين "كانت لنا أيام" أن طريقته في التلحين مختلفة؛ فهو يقرأ نص القصيدة، ثم يعيش مع الكلمات لفترة من الزمن حتى تصبح جزءاً منه، ثم يبدأ اللحن في الانسياب تلقائياً مهتدياً بالإيحاء من الكلمات نفسها" .. وهي في الغالب مزيج من الفصحى والعامية، تتفجر منها ينابيع الرومانسية والعاطفة المشبوبة بالحرمان.
مطلع الستينيات، ظهرت الأفلام الغنائية التوثيقية، وتولت وزارة الاستعلامات والعمل حينها، بقيادة اللواء طلعت فريد (وهو بالمناسبة الذي أنشأ وحدة الإنتاج السينمائي ووضع على رأسها المخرج جاد الله جبارة)، فنجحت في تسجيل فيلم "أرضنا الطيبة" وفيلم "لا وحبك" مع الممثلة نعمات حماد. وكان هذان الفيلمان يُعرضان بواسطة السينما المتجولة في كل أنحاء السودان، وهي أفلام غنائية مصحوبة بمناظر جميلة للخرطوم قديماً، كان ذلك قبل ظهور التلفزيون تقريباً.
لن أنسى الصديق عمنا محمد الطيب "الجبلك"، وهو عاشق لعثمان حسين، هو الذي أدخلنا إلى ذلك العالم الفني الرفيع. وكنا نستمع معه أيضاً إلى برنامج "حقيبة الفن" في نسخة عوض بابكر الآخيرة، بقرية مكركا، ثم نتبارى في ترديد تلك الألحان العبقرية والحديث عنها. وفي إحدى المرات، عرّفنا "الجبلك" على لحن جديد لعثمان حسين مع محمد الحويج، لحن غريب ومُدهش"كلمة منك حلوة"، وهي تقريباً المرة الوحيدة التي يغني فيها أبو عفان مع فنان آخر، عدا بعض الأناشيد الوطنية التي قدمها عمالقة الفن على المسرح القومي بأم درمان، ذات الذي افتتحه اللواء طلعت فريد إبان زيارة الرئيس جمال عبد الناصر للسودان. قلت لصديقي: "بالله، انظر كيف كان هؤلاء العساكر مثقفين وجميلين؟".
يبدو أن هذه الليلة لن تمر دون أحاديث السياسة، فقد قطعتُ على صديقي استغراقه، وقلتُ له أيضاً: "أفضل شيء في حكومة الدعامة هؤلاء أنهم سيتركون لنا أغاني عثمان حسين، لأنهم ضد كل ما أنتجته 'دولة 56'، وكان أبو عفان وبازرعة أجمل ما فيها، وكذلك علي المك، الذي يظهر في مطلع هذا التسجيل النادر يقدم بطريقته الآثيرة فنان برنامج "فرسان في الميدان" كما قدم من قبل صديقه أبو داؤود.. لنسمتع إليه ونستمتع بهما، وهو يقدم أبو عفان بعد غيبة عن المسرح والتلفزيون.