✍ لؤي إسماعيل مجذوب : بابنوسة لا تجعلوها فاشرا جديدة
صرخة في وجه الصمت
الفرقة الثانية والعشرون في بابنوسة تقاتل الآن معركة الكرامة الأخيرة.
يقف اللواء ركن معاوية حمد في الميدان، يواجه حصارًا خانقًا، ويقود رجاله في صمتٍ يُشبه الصلاة، بينما من خلفه وطنٌ يترقّب ويصمت... كأن الصمت صار عقيدتنا في الحرب!
إنها ليست معركة عابرة، بل اختبارٌ جديد لقيمة الوطن في ميزان الدولة، واختبارٌ أخير لمدى قدرتنا على التعلم من دروس الفاشر.
الفاشر... الجرح المفتوح
سقوط الفاشر لم يكن مفاجئًا، بل نتيجة حتمية لصمتٍ طويلٍ وارتباكٍ متواصلٍ واطمئنانٍ زائفٍ إلى "بيانات النصر" التي كانت تُبث عبر الهواتف.
كنا نعدّ انتصاراتنا بالأرقام: ثلاثمائة معركة ناجحة، آلاف القتلى من المرتزقة، ومئات العربات المدمّرة.
لكن النتيجة كانت سقوط مدينةٍ كاملةٍ في يد المليشيا.
سقطت الفاشر لأننا صدّقنا أن الحرب تُدار بالكلمات لا بالخطط، وبالبيانات لا بالذخائر، وبالأماني لا بالإمداد.
بابنوسة... على مرمى الخطر
الآن تُعاد القصة ذاتها في بابنوسة.
المليشيا تُحكم الحصار، وتزحف كل يومٍ بخطواتٍ حثيثة نحو المدينة.
تهدد الدلنج، تلوّح للمسيرات فوق الأبيض، وتفتح جبهاتٍ جديدة لتشتيت الانتباه.
بينما في الداخل، تتناقل الهواتف نفس الأغنية القديمة: «القوات صدّت الهجوم».
لكن الحقيقة أن الصدّ لا يكفي، وأن الحصار لا يُكسر بالتمنّي.
بابنوسة اليوم على خط النار، والفرقة الثانية والعشرون تقاتل بكل ما تملك، لكن الميدان يحتاج أكثر من الشجاعة؛ يحتاج قرارًا شجاعًا من القيادة، يحتاج إلى إسنادٍ لوجستي، وإلى إرادة سياسية لا ترتجف عند أول عاصفة.
حين يموت الصبر
لقد ماتت المقاومة الشعبية، لا لأنها ضعفت، بل لأن الناس أُنهكوا من انتظار الفرج.
الشعب الذي لا يَسمع إلا بيانات متأخرة سيفقد ثقته، والمقاتل الذي لا يجد سندًا حقيقيًا خلفه سيفقد الحافز، والعدو يدرك هذه المعادلة جيدًا.
لهذا يقاتل لوقتٍ أطول مما نتوقع، يمتصّ صبرنا قبل أن يستنزف قوتنا.
إنه يقاتل لكسر إرادتنا، لا لاحتلال الأرض فقط، بينما نحن نُبدّد الوقت في تصحيح الأخبار بدل تصحيح المسار.
رسالة إلى القيادة
يا قادة الجيش...
لا تنتظروا أن تُكتب أسماء جديدة في سجل المدن المفقودة.
لا تجعلوا بابنوسة تُداس كما دِيست الفاشر.
العدو أمامكم، والشعب خلفكم، وبينكما الوطن الذي لا يحتمل سقوطًا آخر.
إنها اللحظة التي يجب أن تتحول فيها التقديرات إلى أفعال، والمواقف إلى قرارات، لأن كل دقيقة تأخير تُقرب المدينة من مصيرٍ مأساوي.
العدو في ثوب المرتزقة
المعركة لم تعد محلية؛ هناك أيادٍ خارجية تُغذّي النار.
الإمارات تمدّ المليشيا بالمال والسلاح، وتدير المعركة عن بُعد ببرودٍ مريب، لتستنزف ما تبقى من قوة الدولة.
لكن ما لا يفهمه من يقف خلف المليشيا، أن السودان لا يُهزم حين تُقصف مدنه، بل حين يُكسر كبرياؤه — وهذا ما لن يحدث ما دام في الجيش رجالٌ من طينة معاوية حمد، وما دام في المدن رجالٌ يعرفون أن الشرف لا يُستباح مرتين.
حين تقرع الأجراس
بابنوسة اليوم ليست معركةً جغرافية، إنها معركة بقاءٍ وكرامةٍ وضمير.
إذا سقطت، فلن تسقط مدينة، بل سيسقط معها آخر خيطٍ في نسيج الوطن.
حينها، لن تنفعنا الكلمات ولا بيانات النعي، وسنكتب من جديد: «لقد تأخرنا».
فهل ننتظر حتى نسمع قرع أجراس بابنوسة؟
أم نتحرك قبل أن يكتب التاريخ أسماءنا في خانة المتفرجين؟
القرار اليوم... والوقت ليس في صفّنا.


