✍ د. ماجد السر عثمان : مراسي الخرطوم تشرق من تحت الرماد (7) شفشفة الأشجار

قناعتي أن حرب التتار لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت حربًا شاملة ضد التاريخ والجمال والإنسان.
وهكذا تمامًا، كانت هذه الحرب الممنهجة التي اندلعت على أرض الخرطوم، موزّعة بالأدوار، مرسومة التوقيتات، ومقسّمة بحسب كادر الميليشيا وتوجيهات الكفيل الذي يدير المشهد من بعيد.
في الأيام الأولى، وبعد فشل الاستيلاء على السلطة، بدأ الكفيل في إعادة توجيه المعركة وفقًا لأجندته الاستراتيجية:
انطلقت المجموعات الأولى لنهب الذهب والأموال وسيارات الدفع الرباعي.
تلتها مجموعات متخصصة في تدمير المؤسسات التعليمية، الحكومية والخاصة: سرقوا الأبحاث، دمّروا الأثاث، أحرقوا الكتب، ونهبوا الوسائل التقنية الحديثة.
ثم جاءت موجة ثالثة، لم تكتف بما سبق، بل شرعت في إبادة الحرث والنسل، حرفيًا.
ثم جاءت الفئة الأشد همجية، تلك التي انتقمت من المواطن الذي لم يستطع الخروج: مارست عليه كل صنوف التعذيب الجسدي والنفسي، بوحشية تامة.
في قناعتي، كثير من هذه الأفعال كانت من تنفيذ عصابات أجنبية، جاءت من دول الجوار وربما من أبعد من ذلك.
لكن المؤلم، الصادم، هو أن نحو 60% من سرقات المنازل نفّذها سودانيون، من المتعاونين مع المليشيا، ومن الحزام السكني الإجرامي الذي كان يحيط بالخرطوم كالسوس.
كنت أظن أن هؤلاء "المرضى" قد أشبعوا شهواتهم إلى حد التخمة، بعد أن نهبوا، وسرقوا، وجمعوا ما خفّ وزنه وغلا ثمنه، حتى كلاب وقطط الخرطوم قد إكتفت من جثث قتلاهم ...
لكن ما رأيته بعد تحرير الخرطوم في جولاتي اليومية عبر أحيائها أصابني بالذهول والحسرة:
نفس المجموعات، نساءً ورجالًا، أطفالًا وشيوخًا، عادوا لهوايتهم المفضّلة، ولكن هذه المرة ضد الأشجار...
شفشفوا السيقان، قطعوا الأغصان، لم يراعوا اخضرارًا ولا ظلاً ولا تاريخًا...
حرقوا الجمال كما لو أنه عدو شخصي، وكأن الخضرة جريمة يجب اقتلاعها.
أنهم أرادوا أن يحرموا أهل الخرطوم حتى من ظلال الأشجار ...
مسرح هذه الجريمة على طول شارع النيل وداخل المؤسسات الكبيرة...
وهذا الطريق يمثل مرور معظم المسؤولين وعلى مرمى حجر من وزارة الداخلية
أين وزارة الزراعة؟
أين الإدارات الولائية والاتحادية المختصة بالغابات والبستنة؟
أظنكم تنتظرون من القوات المسلحة أن تحرر أشجار الخرطوم أيضًا!
حسنًا... سأضم قلمي إلى المعركة،
ولنسمها بكل جراءة: "معركة الكرامة الخضراء"...