✍ عمار العركي : زيارة إريتريا ؛ لابد من أسمـرا وإن طال الغياب

▪️زيارة رئيس مجلس الوزراء د. كامل إدريس إلى أسمرا، على رأس وفد رفيع يضم وزير الخارجية والتعاون الدولي السفير محيي الدين سالم، ووزير الثقافة والإعلام والسياحة الأستاذ خالد الإعيسر، تمثل خطوة بالغة الأهمية في مسار السياسة الخارجية السودانية الجديدة، ليس لأنها الزيارة الأولى بعد توليه رئاسة الوزراء فحسب، بل لأنها تضع الخرطوم مجددًا أمام أحد أهم مفاتيح أمنها القومي والإقليمي: دولة إريتريا.
▪️هذه الخطوة – في جوهرها – ليست مجرد نشاط دبلوماسي، بل هي عودة متأخرة إلى رؤية قديمة ظللنا ندعو إليها منذ ما قبل الحرب، بل ومنذ التحولات التي شهدتها المنطقة إبان ثورات الربيع العربي. تلك الرؤية كانت تقوم على ضرورة إعادة التوازن في علاقات السودان الإقليمية، من خلال التقارب مع إريتريا وتطوير العلاقة معها على نحو متكافئ مع إثيوبيا، لا أن تبقى العلاقة مختلة لصالح أديس أبابا التي ظلت لسنوات تستأثر بموقع الشريك الأقرب للخرطوم.
▪️لقد كانت الحساسية التاريخية بين إثيوبيا وإريتريا، والعلاقة المتوترة بينهما منذ انفصال أسمرا عن أديس أبابا، سببًا رئيسًا في اضطراب العلاقة السودانية الإريترية، إذ أدى التقارب السوداني – الإثيوبي في عهد الإنقاذ إلى نوع من "الحرب الباردة" بين الخرطوم وأسمرا، سرعان ما تحولت إلى توترات وسخونة ميدانية متقطعة.
▪️لكننا قلنا – وكررنا القول في حينه – إن هذا الاختلال في العلاقة يشكل خطرًا استراتيجيًا على السودان، وإن استمرار الارتهان لإثيوبيا دون موازنة العلاقة بإريتريا سيجعل السودان في موقع الضعف أمام أي تغير في الأنظمة أو موازين القوى. ذلك أن العلاقة التي جمعت الخرطوم بأديس أبابا لم تكن علاقة دول بل علاقة نظامين حاكمين – جبهة التقراي في إثيوبيا، وحكومة الإنقاذ في السودان – قاما على مصالح مشتركة محدودة، لا على أسس قومية أو مؤسساتية. وحين سقط النظامان معًا في عامي 2018 و2019، انكشف الغطاء عن هشاشة تلك العلاقة، وتحولت التفاهمات المؤقتة إلى خلافات حادة وتقاطعات مصالح كامنة كانت الأنظمة السابقة قد أخفتها خلف مصالحها الخاصة.
▪️من هنا، كانت دعوتنا المبكرة واضحة: أن يتحرك السودان تدريجيًا نحو أسمرا، وأن يعيد بناء علاقته مع إريتريا على أسس من الثقة والتكامل، لا العداء والتوجس. فرغم ما شاب العلاقة من توتر وعداء رسمي في عهد الإنقاذ، إلا أن إريتريا – على خلاف إثيوبيا – لم تتسبب في أي أضرار مباشرة للشعب السوداني أو للإقليم الشرقي. بل على العكس، حين اشتعل التمرد في شرق السودان منتصف العقد الأول من الألفية، كانت أسمرا هي التي رعت اتفاق سلام الشرق عام 2005م، والذي أنهى نزاعًا خطيرًا وكاد أن يتحول إلى حرب أهلية، وحقق استقرارًا دام لعقد ونصف، حتى سقوط نظام الإنقاذ.
▪️بعد ثورة ديسمبر، لم تتحسن العلاقة كما كان مأمولًا، إذ اتخذت الحكومة الانتقالية – بتياراتها المدنية الثورية – موقفًا سلبيًا من نظام أسياس أفورقي، انطلاقًا من تصنيفه كنظام "استبدادي"، دون النظر إلى واقعية دوره الإقليمي أو وزنه الأمني في توازنات القرن الإفريقي. ورغم هذا الجفاء، تعامل الرئيس الإريتري بقدر كبير من الحنكة والذكاء السياسي، فأدار الخلاف بصبر وهدوء، حتى جاءت التحولات الكبرى في السودان بعد إقصاء الشريك المدني من السلطة، واندلاع الحرب التي دخلت عامها الثالث.
▪️خلال هذه الحرب، أثبتت إريتريا موقفًا ثابتًا وواضحًا: لم تنخرط في أي محور معادٍ للسودان، ولم تستغل اضطراب الأوضاع كما فعلت دول الجوار الأخرى. بل اتخذت موقفًا داعمًا للشعب السوداني وقواته المسلحة القومية، رافضة كل الضغوط والإغراءات التي مورست عليها لتتبنى موقفًا منحازًا للمليشيا أو تتدخل في الشأن الداخلي. في الوقت الذي تورطت فيه دول مثل تشاد وإثيوبيا وإفريقيا الوسطى، وحكومة حفتر في ليبيا، في دعم التمرد والمليشيات أو تمرير الدعم اللوجستي عبر حدودها، ظلت أسمرا على الحياد الإيجابي، أقرب إلى دعم الاستقرار منه إلى تأجيج الصراع.
▪️والأهم من ذلك أن تشكيل الوفد الرسمي للزيارة – بضم وزيري الخارجية والإعلام إلى جانب رئيس الحكومة المدنية الانتقالية الذي يحظى بقبول إقليمي ودولي واسع – يحمل رسالة سياسية بالغة الدلالة، فهذه التوليفة تعني أن الخرطوم استوعبت الدرس جيدًا، وأنها عادت إلى جادة الطريق والمسار الاستراتيجي الصحيح المؤدي إلى تحقيق الاستقرار الداخلي وحماية الأمن القومي السوداني من جهة، وإلى استعادة موقعها الإقليمي الفاعل من جهة أخرى، خاصة في معادلة الأمن والسلام الإقليميين وأمن البحر الأحمر.
وإن تأخرت هذه العودة، فحقًا أن تأتي الخرطوم متأخرة خير من ألا تأتي.
▪️ولعل ما أكد هذه القراءة أن الزيارة لم تكن شكلية أو رمزية، بل أثمرت عن تفاهمات واتفاقات عملية أعادت ترسيم مسار العلاقة على أسس جديدة، إذ أعلن رئيس الوزراء عقب عودته أن المباحثات مع الرئيس الإريتري أسياس أفورقي كانت “تاريخية ومثمرة على كافة الأصعدة”، وشهدت توافقًا واسعًا حول تعزيز الشراكة الاستراتيجية بين البلدين.
فقد اتُفق على إطلاق مشروعات اقتصادية واستثمارية مشتركة، تشمل إقامة مصائد بحرية كبرى في البحر الأحمر ومصافي للذهب والنفط، إلى جانب تفعيل اللجان الثنائية وإنشاء لجنة اقتصادية جديدة تُعنى بمتابعة وتنفيذ المشروعات بين البلدين.
كما شملت التفاهمات تنسيقًا أمنيًا واستخباراتيًا لضبط الحدود ومنع التهريب والتسلل، واتفاقًا على توحيد المواقف في المحافل الإقليمية والدولية، ودعم عودة السودان إلى الاتحاد الإفريقي، هذه النتائج تمثل في جوهرها نقطة تحول حقيقية تعيد العلاقات إلى طبيعتها المتوازنة، وتفتح الباب أمام مرحلة جديدة من الشراكة العملية لا الخطاب السياسي.
*_خــلاصًــة الـقــول ومنتهاه_*
▪️إن زيارة د. كامل إدريس إلى أسمرا تعيد ضبط بوصلة السياسة الخارجية السودانية نحو الاتجاه الصحيح،ث، وتؤسس لشراكة عملية بين الخرطوم وأسمرا تُبنى على المصالح المشتركة لا على الأهواء السياسية. وإذا ما أحسن السودان إدارة هذا التقارب، فستتحول العلاقة مع إريتريا إلى تحالف استراتيجي راسخ يسهم في استقرار الإقليم وتحصين الأمن القومي السوداني في مواجهة التحديات القادمة من الشرق والجنوب.، إنها زيارة بعين المستقبل، تُعيد السودان إلى موقعه الطبيعي : دولة مركزية تصنع التوازن ولا تُقاد به.