✍ عمار العركي : خبر وتحليل ؛ دول البحيرات دخلت الضُل
* مرة أخرى تنجح الدبلوماسية السودانية في تحييد المواقف الإقليمية وكسبها، فبيان القمة التاسعة لمنظمة دول البحيرات العظمى جاء – ولأول مرة – مختلفاً عن البيانات الأفريقية الرمادية المعتادة. ما جرى في كينشاسا كان دخولاً كاملاً لدول البحيرات إلى " *الضُـل* "... ضُل السيادة والكرامة السودانية العصية ، ذلك *الضُل* الذي طالما وقفت دول عدة عند تخومه، مُفضلة النظر ، ومُكتفية بالمراقبة الحذرة،
* لكن في القمة الأخيرة، الدبلوماسية السودانية كسرت هذه المعادلة ، عبر إعادة تعريف وتوصيف الواقع السوداني الذي لم يعُد شرق ووسط أفريقيا في مأمن من تداعياته المباشرة. "فتوصية القمة" الموجهة لمجلس الأمن الدولي "بإدانة مليشيا الدعم السريع" لا تُقرأ كمجاملة عاطفية ولا كموقف انفعالي، بل باعتبارها تحوّلاً نوعياً في ميزان الفهم الإقليمي لطبيعة الحرب في السودان. فالصراع الذي كان يُنظر إليه سابقاً كقضية داخلية محدودة بين "طرفين محليين"، بات اليوم – في عُرف المنظمة – تهديداً إقليمياً مباشراً بدعم خارجي ، تتجاوز آثاره الحدود، ويطال الأمن الجماعي لدول البحيرات العظمى.
* هذا التحوّل النوعي يعكس فاعلية الدبلوماسية السودانية من خلال المشاركة الرفيعة في القمة، وتأثير الخطاب الذي قدّمه الفريق إبراهيم جابر، والذي أعاد ترتيب المشهد أمام القادة من خلال توصيف دقيق للحرب ، وتوثيق للفظائع، وشرح لصورة باتت أكثر وضوحاً بعد اعتداء المليشيا على الفاشر.
* نجحت الدبلوماسية السودانية في جعل السُودان حاضراً في القمة كدولة فاعلة،لا كدولة مفعولا بها تبحث عن تضامن أخلاقي، وكعضو في منظومة أمنية يقدّم سرديته من منظور اقليمي اكثر من كونها شخصية ويطالب بتفعيل مسؤوليات المنظمة تجاه تهديد يطال الجميع.
* ولعل أبرز ما لفت الانتباه في مخرجات القمة هو الانتقال من متابعة وقائع الميدان إلى ضرب اقتصاد الحرب، عبر وضع ضوابط لاستخدام المعادن النفيسة وعلى رأسها الذهب السوداني. وهذه ليست توصية فنية عابرة؛ إنها اعتراف معلن بأن تمويل المليشيات العابرة للحدود لم يعد شأناً محلياً، وأن تهريب الذهب – الذي ظل شرياناً يغذي ماكينة العنف – أصبح جزءاً من معركة الأمن الإقليمي.
* كما أن توجيه السكرتارية التنفيذية بحشد الدعم داخل مجلس الأمن والاتحاد الأفريقي يؤكد أن المنظمة لم تعد راغبة في الاكتفاء بالتوصيات، بل تمضي نحو تحويل موقفها إلى مسار ضغط دولي منظم، ما يرفع مستوى التعاطي الإقليمي مع الأزمة السودانية إلى مرحلة أكثر جدية ووضوحاً.
* وعليه، يمكن القول إن منظمة البحيرات العظمى لم تدخل "الضُل" من باب التضامن، بل من باب الضرورة. الضرورة التي فرضتها المعطيات وتوازنات الأمن الإقليمي، والتي جعلت من المواقف الرمادية ترفاً مكلفاً. المنظمة تقول اليوم – ضمناً – إن ما يجري في السودان يهدد فضاءها الجغرافي، وإن الصمت أمام تمدد المليشيات وتدفقات السلاح والذهب لم يعد ممكناً.
*_خـلاصـة القـول ومنتهــاه_ :*
* كما قلنا سابقاً، فإن دخول " *أمريكا الضل* " بفعل الميدان والضغوط سيكون بمثابة الضؤ الأخضر والإشارة التي ينتظرها الآخرون، بين خاضعين ومترددين. واليوم تدخل البحيرات الضل بفعل إدراك عميق بأن الحرب في السودان لم تعد حرباً داخلية، بل نقطة ارتكاز تعاد عبرها صياغة موازين القوى في وسط وشرق أفريقيا. الفارق الوحيد أن دخول المنظمة جاء من بوابة الأمن الجماعي، لا من بوابة الحسابات الدولية.
* قمة كينشاسا لم تمنح السودان مجرد موقف سياسي، بل أضافت بعداً إقليمياً جديداً قد يشكل أحد أهم التحولات في مسار الأزمة. وما بين بيان واضح، ومواقف أكثر جرأة، وضغوط متوقعة في مجلس الأمن، تبدو منظمة البحيرات وقد اتخذت موقعها الجديد... موقع "الضُل" الذي لا يدخله إلا من قرر أخيراً أن يرى الأشياء على حقيقتها.


