اللواء (م) مازن محمد إسماعيل... يكتب :إنَّمَا تَعبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ أَوثَـٰنا وَتَخلُقُونَ إِفكًا

في ٣ يناير ١٩١٦م بدأت الدول الاستعمارية (تحديداً بريطانيا وفرنسا) في تفتيت التركة العثمانية بتقسيم الدول العربية إلى ٢٢ دولة ، وصنعت لها إطاراً قومياً ديمغرافياً يبعدها وجدانياً عن محيطها الإسلامي ، ونصَّبت لكل دولةٍ منها حدوداً جغرافية ، وكتبت لها تاريخاً يخصها ويدُقُّ أسافين الفُرقة بينها وجيرانها ، ويمتد أثره بالصُّدُوع ما بين مكوناتها المجتمعية ، وصنعت لها عَلَماً تنحني أمامه وتعامله معاملة اللات والعُزَّى ، ومأسست أنظمتها الدستورية ، ورسمت لها شرعيتها الحاكمية ، وابتكرت عمليتها التعليمية ، وشيَّدت منظومتها القِيمية ، وصنَّفت مجتمعاتها السكانية ، وبذرت أحزابها السياسية ، وزرعت طوائفها الدينية ، وأرست أُطُرها الاقتصادية ، وهندست إعلامها وصحفها وفنونها وثقافتها وأنديتها الرياضية ، وحددت وجهتها المستقبلية.
في باريس ١٨ يناير ١٩١٩م اجتمع المنتصرون في الحرب العالمية الأولى (إنجلترا ، فرنسا ، إيطاليا ، اليابان) فأنشؤوا عصبة الأمم لتمنعهم أن يتقاتلوا فيما بينهم (وليس منع الحرب في العالم) ، والتي فرضوا فيها شروطهم على العالم ، وشرعنوا فيها ملكيتهم على ميراث العثمانيين كما سبق أن اقتسموا وشرعنوا ملكيتهم على إفريقيا في مؤتمر برلين ١٨٨٥م ، وصنعوا فيها وثيقة جواز السفر التي أصبحت أهم لسكان الأرض من كتبهم المقدسة ، لما تحدده هذه الوريقات من انتماءاتهم ، وولاءاتهم ، وقيمهم ، وطبقتهم البشرية ، وحدود تطلعاتهم.
في سان فرانسيسكو ٢٥ أبريل ١٩٤٥م اجتمع المُنتصرون في الحرب العالمية الثانية (أمريكا ، روسيا ، بريطانيا ، فرنسا ، الصين) فأسَّسوا منظمة الأمم المتحدة لذات الهدف الذي من أجله سبق أن أسَّسوا عُصبة الأمم الفاشلة ، وهو أن يقتسموا العالم دون أن يضطروا للقتال فيما بينهم ، فمنحوا منظمة الأمم المتحدة القوة العسكرية وسلطة إنفاذ قراراتها بين الدول ، وحق فرض التشريعات على الشعوب ، وشرعية إعادة هندسة منظومة القيم والحقوق لكل سكان الكوكب ، ونصَّبوا أنفسهم بحق النقض والعضوية الدائمة في مجلس الأمن آلهةً أوصياء على معتقدات البشر وأموالهم وثرواتهم وحقوقهم وواجباتهم وآمالهم ، ولا غرو أن فشلت الأمم المتحدة كما فشلت عصبة الأمم من قبل.
صنع الطاغوت الاستعماري الأبيض لشعوبنا المُستَضعفة أوثاناً وإفكاً .. هي مزيجٌ من الحدود الجغرافية ، والنعرات الشعوبية ، والأعلام الملونة ، وجوازات السفر التي صنَّفت سكان العالم إلى طبقات ، وجعلنا هذا الطاغوت نُقدِّس أوثانه التي صنعها لنا خلال مائة عامٍ فقط ، فنسف بها كل مضامين الرسالات السماوية ، والقِيَم الحضارية ، والإرث الإنساني الممتد على مدى عشرات القرون ، وجعلنا نُقدِّس أوثانه الجديدة ، ونخضع لها ، ونضحي في سبيلها حتى لو صادمت صميم معتقداتنا ، ولا نتردد في أن نموت ونحيا وفق مداراتها التي حبكوها لنا.
المؤكد هو أن مسار التاريخ الإنساني في العالم والمنطقة قد تغير إلى الأبد ، فلا عودة في أوكرانيا إلى ما قبل ٢٤ فبراير ٢٠٢٢م ، ولا عودة في السودان إلى ما قبل ١٣ أبريل ٢٠٢٣م ، ولا عودة في فلسطين إلى ما قبل ٧ أكتوبر ٢٠٢٣م ، ولا عودة في سوريا إلى ما قبل ٨ ديسمبر ٢٠٢٤م ، ولا عودة في أمريكا والعالم إلى ما قبل تنصيب ترمب ٢٠ يناير ٢٠٢٥م ، ولا عودة في الناتو إلى ما قبل خطاب وزير الدفاع الأمريكي ١٢ فبراير ٢٠٢٥م ، ولا عودة في الجزيرة العربية لما قبل هزيمة الحوثيين لأمريكا وإجبارها لأول مرة على أن تترك إسرائيل لمصيرها.
قد نقض الله بنيان الطاغوت من قواعده حتى خرَّ عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون ، والطاغوت لم يستسلم ولكنه يجمع كيده لبناء منظومةٍ جديدةٍ يستدرك بها ما فاته في الأمم المتحدة كما فعل سابقاً بعصبة الأمم ، ومن رحمة الله بالناس احتدام دفع الناس بعضهم ببعض حتى لا تفسُد الأرض ، والمدافعة بين القوى الكبرى اليوم على أشُدِّها ، والمُستَضعَفون حكوماتهم لاتزال على ذات الغباء والخيانة والضلال الذي زُرِع فيهم قبل مائة عام ، وأمثلهم طريقةً يبحث اليوم لقومه عن سيِّدٍ جديدٍ في الشرق أو الغرب ليسودهم بدلاً عن سيِّدهم القديم ، ولا نجاة للشعوب المُستَضعَفَة هذه إلا بالتخلص من حُكَّامها الخونة ونُخَبهم التافهة التي استجلبها الحكام حولهم *{قَدۡ كَانَتۡ لَكُمۡ أُسۡوَةٌ حَسَنَةࣱ فِیۤ إِبۡرَ ٰهِیمَ وَٱلَّذِینَ مَعَهُۥۤ إِذۡ قَالُوا۟ لِقَوۡمِهِمۡ إِنَّا بُرَءَ ٰۤ ؤُا۟ مِنكُمۡ وَمِمَّا تَعۡبُدُونَ مِن دُونِ ٱللَّهِ كَفَرۡنَا بِكُمۡ وَبَدَا بَیۡنَنَا وَبَیۡنَكُمُ ٱلۡعَدَ ٰوَةُ وَٱلۡبَغۡضَاۤءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤۡمِنُوا۟ بِٱللَّهِ وَحۡدَهُۥۤ}* .. لابد أن يبدء التوحيد بالكفر بأوثان الطاغوت وسدنتها من الحكام والمفكرين والعلماء ، ولا يبدء طريق العزة والكرامة إلا بنبذ الخنوع والإذلال ، ولا تكون الحرية والاستقلال والريادة إلا بالانعتاق من مفاهيم الانغلاق والاسترقاق والتبعية ، ولا يكون ذلك كله إلا بقيادةٍ جريئةٍ ذات رؤيةٍ ربَّانيةٍ متجرِّدة ويساندها رِبِّيون قليلون أو كثيرون ، فالأمة توَّاقةٌ لتسنُّم مراتب العزة التي تستحقها ، وكَنَفُ الله مكفولٌ لهم ، والزَّمان مُواتٍ لذلك ، والتضحيات للعزة والريادة لن تزيد عن التضحيات في مهالك الاتضاع وسياسة الاستتباع.
جلس مروان بن محمد وكان آخر خلفاء بني أمية وقد أُحِيط به قبل مقتله ، وعلى رأسه خادمٌ له قائم ، فقال مروان لبعض من بقي معه: ألا ترى ما نحن فيه؟ لهفي على أيدٍ ما ذُكِرَت ، ونِعَمٍ ما شُكِرَت ، ودولةٍ ما نُصِرَت .. فقال له الخادم: يا أمير المؤمنين ، من ترك القليل حتى يكثُر ، والصغير حتى يكبُر ، والخفيَّ حتى يظهَر ، وأخَّرَ فِعل اليوم لغدٍ ، حلَّ به أكثر من هذا .. فقال مروان: هذا القول أشدُّ عليَّ من فقْد الخلافة .. ثم لم تكن إلا هنيهةٌ حتى قُتِل ومن معه.
*يسوسون الأمور بغير عقلٍ*
*فينفُذُ أمرُهم ويُقالُ ساسة*
*فأُفَّ من الزَّمانِ وأُفَّ منِّي*
*ومن زمنٍ رئاستُه خساسة