✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية الهجرة وفقدان الهوية الأمريكية

يبدو شهر يونيو 2025 ساخن بعد أن أعلنت إدارة الرئيس ترامب سلسلة قرارات جديدة تشكّل تحولاً جذرياً في سياسة الهجرة الأمريكية، بدأت بحظر سفر مشدد على 19 دولة، من بينها 12 دولة بحظر كامل و7 بالدخول الجزئي، بدعوى “مخاوف أمنية وطنية” وارتفاع معدلات تجاوز التأشيرات . دخل هذا الحظر حيز التنفيذ في 9 يونيو الساعة 12:01 صباحًا بالتوقيت الشرقي، مع استثناءات لحاملي البطاقة الخضراء، والفيزا الصالحة، وطالبي اللجوء ذوي الحالات الخاصة
مع تزايد الاعتماد على الحجج الأمنية، صدرت أوامر تنفيذية أخرى منذ بداية العام، مثل توسيع صلاحيات الترحيل السريع، وحرمان البلديات “المأوى” من الدعم الفيدرالي، وزيادة تمويل وتجنيد ضباط إنفاذ الهجرة . كما تم إقرار قانون “لاكن رايلي” في يناير، الذي يلزم وكالات الهجرة بتوقيف المهاجرين الغير موثقين المتهمين بجرائم، ويسمح للدول بمقاضاة الحكومة الفيدرالية في حال الإخلال بتنفيذ هذه الالتزامات
كما تدرس السلطات حالياً تعليق إصدار تصاريح العمل لطالبي اللجوء الجدد، وتأخيرها حتى يتم حسم طلب اللجوء كاملاً—قد تصل المدة إلى عام بدلاً من ستة أشهر . هذه الخطوة قد تُلحق أضراراً اقتصادية بالمئات من الآلاف الذين يعتمدون على هذه التراخيص للبقاء والاندماج في المجتمع الأمريكي
تعكس قرارات يونيو 2025 توجهًا حازمًا نحو تشديد إجراءات الهجرة، يعتمد على الأمن والمراقبة، مع تعزيز أدوات الترحيل والقيود على الإقامات المؤقتة واللجوء. هذه السياسات أثارت موجة من الجدل والإعتراضات، خصوصًا من المنظمات الحقوقية وأطراف محلية عديدة في الولايات المتحدة وخارجها
العالم يتابع في كل لحظه تداعيات المشهد في الولايات المتحدة الأمريكية والقرارات التي اتخذت بشان الهجرة التي تُعدّ واحدة من أكثر القضايا جدلاً وتأثيراً في السياسة والمجتمع الأمريكي المعاصر. وهي تلعب دوراً مركزياً في تشكيل السياسات الداخلية، وتؤثر بشكل مباشر على الاقتصاد، التركيبة السكانية، والجدل السياسي بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري
قضية الهجرة أصبحت محوراً أساسياً في الحملات الانتخابية الأمريكية الجمهوريون غالباً ما يركزون على ضبط الحدود، وتقليل الهجرة غير النظامية، بينما يميل الديمقراطيون إلى نهج أكثر ليونة يركّز على إصلاح نظام الهجرة وتوفير مسارات قانونية للمهاجرين
مثال حي: قضية الحدود الجنوبية مع المكسيك تُعدّ من أكثر الملفات سخونة في الفترة الأخيرة، مع تدفق أعداد كبيرة من المهاجرين، الأمر الذي أدّى إلى توترات سياسية بين الحكومة الفيدرالية والولايات الحدودية مثل تكساس.
المهاجرون يشكّلون قوة عاملة حيوية في قطاعات مثل الزراعة، البناء، الرعاية الصحية، والخدمات. ومع ذلك، هناك جدل مستمر حول ما إذا كانت الهجرة تُشكّل ضغطاً على الوظائف والخدمات العامة، أو تساهم في دعم الاقتصاد من خلال الضرائب والعمل في وظائف لا يُقبل عليها المواطنون.
وفقًا لبعض الدراسات، المهاجرون يساهمون في النمو الاقتصادي لكن التوزيع غير المتوازن لهذه الفوائد قد يخلق شعوراً بالاستياء لدى بعض المجتمعات المحلية.
الهجرة المستمرة ساهمت في جعل الولايات المتحدة واحدة من أكثر الدول تنوعاً عرقياً وثقافياً في العالم. هذا التنوع ساعد في إثراء المجتمع الأمريكي، لكنه في الوقت نفسه غذّى حركات قومية ويمينية تشعر بالقلق من "فقدان الهوية الأمريكية"، بحسب منظورهم.
نتيجة ذلك: تنامي الخطاب الشعبوي والمعادي للمهاجرين في بعض الأوساط، والذي تُرجم إلى سياسات متشددة مثل الحظر على بعض الدول الإسلامية، أو الجدران الحدودية.
الهجرة أصبحت واحدة من أبرز أسباب الانقسام داخل المجتمع الأمريكي. الإعلام اليميني يصوّر الهجرة على أنها "أزمة" تهدد الأمن القومي، بينما الإعلام الليبرالي يراها قضية إنسانية تتطلب حلاً عادلاً وشاملاً.
هذا الانقسام ينعكس على الكونغرس، حيث تفشل محاولات تمرير قوانين إصلاح شاملة بسبب الخلافات الحادة بين الحزبين.
الهجرة لا تؤثر فقط على الداخل الأمريكي، بل تُجبر الإدارة الأمريكية على اتخاذ مواقف معينة تجاه دول المصدر. مثلاً، زيادة الهجرة من أمريكا الوسطى دفعت الولايات المتحدة لزيادة دعمها لتلك الدول، في محاولة لمعالجة "الأسباب الجذرية"
الهجرة اليوم ليست فقط مسألة قانونية أو إنسانية، بل قضية استراتيجية تُعيد تشكيل السياسة والاقتصاد والمجتمع في أمريكا يُتوقّع أن تكون هذه القضية في صدارة المشهد، خاصة مع تصاعد التوترات على الحدود الجنوبية والتغيرات الديموغرافية داخل البلاد.