✍ أحلام محمد الفكي : الهجرة ؛ رحلة الروح وجرد الحساب في زمن التحديات

يطلُّ علينا عامٌ هجريٌّ جديد، لا كرقمٍ في دفتر الزمان فحسب، بل كفرصةٍ جديدةٍ للعبور من ظلمة الذات إلى نور المعنى. إنه نداءٌ عميقٌ يتردد صداه في القلوب، يدعو إلى التخلي عن المألوف من أجل السمو، وإلى تجربة الفقد كبوابة لحياة جديدة. هذا العام، يحمل في طياته دعوةً صريحةً للتطهر من أوجاع الماضي، تمامًا كما تطهرت المدينة المنورة من أوثان الجاهلية، ولنحمل معنا ما يستحق البقاء: صدق النية، ونور الأمل، وعزمًا لا يُهزم.
إن هذا التجدد الزمني يمثل دعوة إلهية للتأمل العميق والتجديد الشامل، محولًا حدثًا تقويميًا إلى عتبة روحية وهدفية. إنها آلية مقصودة للنمو البشري وتصحيح المسار، مما يجعل الهجرة مفهومًا خالدًا لعملية مستمرة من التحسين الداخلي والخارجي.
إن أعظم الرحلات لا تبدأ بخطوةٍ على الأرض، بل بنداءٍ في القلب، نداءٌ يدعو للترك من أجل السمو، وللفقد من أجل الولادة من جديد. فما الهجرة إلا سفرُ الروح عن مألوفها، بحثًا عن يقينٍ يتجاوز الرملَ والماء، ويبلغ سماءَ التوحيد. هذا التوسع في مفهوم الهجرة يتجاوز الحدث التاريخي المحدد ليصبح تجربة إنسانية عالمية. إنه يصور الهجرة كرحلة وجودية للنفس، انتقالًا من منطقة الراحة نحو المعنى واليقين. هذا التفسير الأوسع يضمن أن يتردد صدى المقال لدى الجميع، وليس فقط أولئك الذين يعانون من النزوح الجسدي، بل كل من يسعى للنمو الشخصي أو يواجه تحديات الحياة. وفي مطلع هذا العام، ومع مجريات الأحداث في العالم العربي والإسلامي، وخاصة ما أصاب السودان من أحداث وحروب وهجرة ونزوح ولجوء، يبرز هذا المفهوم أهمية قصوى. إن ما يحدث اليوم في السودان، من نزوح قسري ومعاناة إنسانية، يذكرنا بمدى تشابه اليوم بالبارحة، ويدعونا لاستلهام الدروس والعبر من الهجرة النبوية الشريفة، لتكون وقفات وعظات لمواجهة تحديات اليوم.
تُعد الهجرة النبوية الشريفة حدثًا تاريخيًا جليلًا غيّر مجرى التاريخ الدولي والعالمي، وأسست لمبادئ وأسس ونظريات قيام الدول وعلاقاتها في أوقات السلم والحرب. لم تكن مجرد انتقال مكاني، بل كانت نقطة تحول محورية، رأى الخليفة الراشد عمر بن الخطاب أن يجعلها تأريخًا وتقويمًا إسلاميًا مستقلًا، مؤكدًا أن "الهجرة فرقت بين الحق والباطل، فأرّخوا بها". هذا القرار لم يؤسس لتقويم زمني فحسب، بل رسخ الهجرة كرمز للانطلاق نحو الحق والعدل، ووضع أساسًا لهوية مستقلة للأمة.
تُروى قصة الهجرة بألمٍ عميق على لسان رسول الهدى والرحمة صلى الله عليه وسلم، وهو يودع مكة المكرمة، مهبط الوحي ومسقط رأسه، بعبارة مؤثرة: "والله إنك لخير أرض الله وأحب أرضٍ إليَّ ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت منك". هذه الكلمات تحمل في طياتها المعاناة الإنسانية الكامنة في كل نزوح قسري، وتجعل الحدث التاريخي قريبًا من وجدان كل من مر بتجربة الفراق عن الوطن.
نسأل الله تعالى في مطلع هذا العام المبارك، أن يجعله عام خير وبركة، وأن يمن على أمتنا بالصلاح والفلاح، وعلى السودان الحبيب بالسلام والأمان.
اللهم اجعل لنا من قولك: ﴿ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ﴾ نصيبا، اللهم عام خيرٍ، وصحة، وعافية، وسرور، وأمن وأمان واستقرار وسلام في السودان وعام جبرٍ وتحقيق أمنيات، واستجابة دعوات.