✍ لام دينق نوت شول : صرخة من صحفي جنوبي إلى إخوتي في الشمال

في كل مرة أفتح فيها هاتفي، وأقرأ ما يكتبه بعض أبناء الشمال في مجموعات فيسبوك وصفحات عامة، ينتابني شعور عميق بالحزن، لا لأنني لا أؤيد كشف الفساد، بل لأنني أرى شعبًا عظيمًا يذبح نفسه بيديه، دون أن يدري.
لقد عرفت هذا الشعب – شعب السودان الشمالي – عن قرب، وعشت بينه، وعملت مع شبابه، واستمعت إلى شيوخه ومفكريه. أعرف جيدًا أن السوداني إنسان شهم، عاطفي، نبيل، لكن هذه العاطفة، حين لا تقيدها الحكمة، تتحول إلى عاصفة. وحين تُفتح الصدور قبل أن تُحكم العقول، يسقط الأمن القومي في فخ الانفعال.
ما يؤلمني، أن بعض السودانيين اليوم يتعاملون مع ملفات الدولة وأسرارها كما لو كانت نكتة تُتداول، أو فضيحة شخصية تُشهر في لحظة غضب. منشور صغير، صورة لوثيقة، تسجيل صوتي، معلومة مرسلة، كلها تُنشر على العلن في فضاء مفتوح، لا يدركون أن فيه جواسيس وأعداء ومحللين استخباراتيين يجمعون خيوطهم من كل حرف يُكتب.
أيها الإخوة في الشمال،
أقولها من قلبي وبصدق:
لا أحد يبني وطناً على أعمدة الفيسبوك.
لا أحد يحمي نفسه بتعرية مؤسساته.
لا أحد ينتصر على الفساد بكشف الأسرار الوطنية على الملأ.
هكذا فقط، تهدم الدولة على رؤوس الجميع، شرفاء وفاسدين.
في الجنوب، تعلمنا الدرس بألم.
كم من معلومة تسربت باسم الحرية، فقتل بسببها جنودٌ أبرياء؟
كم من منشور غاضب جرّ وراءه عمليات تصفية، واغتيالات، واختراقات أمنية؟
لكننا لم نفهم إلا بعد أن احترق البيت كله، ولم يبقَ سوى الرماد.
لهذا أكتب إليكم اليوم،
لا كمحاضر، ولا كمتفلسف من بعيد،
بل كأخ، كصديق، كصحفي أحب هذا السودان كله، شماله وجنوبه، وأحلم أن ينهض من جديد.
أقول لكم: إذا كانت عندك وثيقة أو معلومة حساسة، فهناك جهات مختصة، قنوات رسمية، ضباط شرفاء، قضاة نزيهون…
أما الفيسبوك، فهو ليس مكانًا للحقيقة، بل ساحة للعبث…
فضاءٌ مفتوح لكل من هبّ ودبّ، من العدو إلى المرتزق إلى الباحث عن "لايك".
يا إخوتي…
أمن الدولة لا يُناقش على العام،
وسرُّ الدولة لا يُبَاح أمام الجميع،
ومصلحة الوطن لا تُطلب بالصراخ، بل تُنتزع بالحكمة.
أرجوكم… لا تقتلوا وطنكم بعاطفتكم.
ولا تجعلوا من منشور غاضب جريمة في حق أمة كاملة.
فمن يملك المعلومة، يُبلّغ بها بصمت…
ومن يحب بلده، يحميه من نفسه أولاً.
هذا نداء من لام دينق نوت شول،
الذي اختار التوقف عن الكتابة في السياسة السودانية مراراً،
لكن كل مرة أراكم تفتحون الجرح بأيديكم، أعود لأصرخ، ربما يسمعني أحد…
السر إذا كُشف، لم يعد سلاحاً، بل صار خنجراً في قلب الوطن.