✍ د. ماجد السر عثمان : مراسي ؛ الخرطوم تشرق من تحت الرماد (15) حديث الوطن والوطنية

الوطن... تلك الكلمة القصيرة الثقيلة، التي كلما نُطِقت، انسابت في القلب كأنها نهرُ دمعٍ فرِحٍ أو شهقة حنينٍ جريح. ليس الوطن مجرد حدودٍ مرسومة على ورقة، ولا علمٍ يُرفع أو نشيدٍ يُردّد في الطابور الصباحي. الوطن هو الذاكرة، هو أول دهشة، هو خبز الأم، وملامح الأصدقاء، وهو أيضاً الوجع إن اعتُدي عليه، وهو الفقد إن اختُطف.
الوطنية ليست شعاراً يُطلق في الخُطب ولا شعوراً موسميًّا يُثار عند الأزمات فقط؛ إنها حالة دائمة من العطاء، وفنٌ راقٍ في إيثار الجماعة على النفس. الوطنية هي أن تبني وأنت في الخفاء، أن تزرع وأنت لا تنتظر الحصاد لنفسك، أن تحب بلادك بصمتٍ نقيّ، لا يطلب التصفيق.
كثيرون مروا على هذه الأرض، لكن قليلين هم الذين مرّوا وتركوا الوطن في قلوبنا أجمل مما وجدوه. أولئك هم الوطنيون الحقيقيون.
حين نتذكر علي عبداللطيف، أحد رموز ثورة 1924، لا نراه إلا رجلاً رفع الوطن فوق رأسه، ومضى في طريق المقاومة، موقنًا أن التضحية بالنفس قد تهدي وطنًا بأسره سبيلاً إلى النور.
ونستعيد سيرة الأزهري، الذي ارتدى الجلابية البيضاء يوم رفع علم الاستقلال، لا ترفًا ولا زينة، بل وفاءً لهوية أرادها خالصة للوطن، محررة من تبعية وقيود.
وكم تفيض الذاكرة القريبة بنداءات الشهداء الذين ارتقوا وهم يحمون الوطن من فوضى المليشيات، فاختاروا أن يُزرعوا في الأرض ليظل الوطن واقفًا. أسماءهم غير معلومة للجميع، لكن أفعالهم محفورة في جدار الزمن.
وليس كل الوطنية في المعارك وحدها.
أحيانًا يكون المسؤول الوطني الذي رابط يسد الثغرات ويداوي أنين الأهات .
ويكون الطبيب الوطني هو من بقي في مستشفى مُهدَّم يُعالج أبناء شعبه بلا مقابل،
والعامل الوطني من داوم على تنظيف شوارع مدينته تحت وابل الرصاص،
والمعلّم الوطني من واصل التعليم تحت الأشجار، إيمانًا بأن بناء العقول هو الحصن الذي لا يُقهر.
الوطنية ليست لونًا سياسيًا ولا انحيازًا حزبيًا، بل انتماءٌ صادقٌ للأرض وللإنسان. هي أن تضع الوطن في جيب قلبك، وأن تدافع عنه بحبك لا بكراهيتك للآخر.
في هذه الأيام التي اختلط فيها غبار الحرب بتراب المدن، وعلا صوت البنادق على صوت الحق، نحتاج أن نسترجع معنى الوطنية. نحتاج أن نسأل أنفسنا: هل نحن نحب الوطن فعلاً؟ أم نحب أنفسنا من خلاله؟ هل ندافع عنه لأنه في خطر؟ أم لأننا نريد أن نكون أبطالاً في صورٍ تروى على فيسبوك؟
الوطني الحقيقي لا ينتظر الكاميرا، ولا يختبئ خلف راية، بل يمضي وحده حين يدعوه الوطن، ويعود ومعه قبس من أمل.
وختامًا...
في مراسي القلب، تظل سفن الوطنية راسية، لا تُغادر ميناء الضمير، ولا تنكسر مهما هبّت الريح. فالوطن ليس فندقًا نغادره متى ما ساءت الخدمة، بل هو بيتنا الأول، وحضننا الأخير.