رؤية جديدة السودان

رؤية جديدة السودان

قناة رؤية جديدة
أهم الأخبار

✍ يوسف عبد المنان : الجوع والشرفاء

لم أجد في بقاع أرض الله شعبًا يتسم بالصبر على المكاره والمحن، ويقاسي المرّ، ويقتسم اللقمة مع الجار والغريب والمستجير بهم، مثل أهلنا النوبة في الجبال.

وعندما نشبت حرب منتصف أبريل قبل عامين وبضعة أشهر، واختارت عربان الحوازمة الوقوف إلى جانب الدعم السريع – إلا قليلًا من العقلاء والأوفياء – أعاد أهلنا البقارة فتح منطقة القوز، ونشروا في تخومها العنف البنيوي كما سماه حميدتي، وتفشّى القتل والنهب، وإبادة المحاصيل الزراعية.

جلسنا يومًا نتسامر في مقهى بالدبيبات ونجترّ ذكريات الماضي، فقال الأخ سعد النمتي – وهو نصف مختلّ العقل، ونصف متصوّف، ونصف عاقل:

"الله يا جماعة، أرجل ناس في السودان النوبة... كيف تحمّلوا مئات السنين من الأذى، ونحن الآن، بعد ستة أشهر فقط، قرّرنا ترك ديارنا لهم؟"

النوبة الذين قاتلوا مع الجيش السوداني في كل معاركه بالجنوب، ظلوا أوفياء للمؤسسة العسكرية، أوفياء للسودان، رغم أنهم قوم سمتهم القلق والمغامرة. وفي كل الانقلابات التي وقعت بالبلاد، كان للنوبة نصيب منها.

وبعد سقوط الإنقاذ، تمّ تقدير تضحياتهم. وكان لابنهم الفريق شمس الدين كباشي الدور الحاسم في تغيير البشير، وفي انقلاب الخامس والعشرين من أكتوبر، وفي حرب التحرير.

لكن كل هذه التضحيات، اليوم، تضعها الحرب وتداعياتها – من الجوع، ونقص الغذاء، وفقد الأرواح – في المحكّ.

صحيح أن الجوع يشمل جميع سكان جبال النوبة، ولا يزال بكادقلي أغلب قادة الحوازمة الرواوقة، وكل أمراء الحوازمة، باستثناء الأمير الهادي أسوسه، مع القوات المسلحة، وقد قاتل الرواوقة دار جامع مع الفرقة الرابعة عشرة، كما قاتل الفلاتة، والبرقو، والتكارير.

ولكن يظل النوبة هم الأغلبية التي رفضت مغادرة جبالها، فحاصرتها مليشيات الجنجويد من فوق، وقوات الحلو من تحت الأرض، واستعصى على الحكومة – أو غابت عنها الإرادة – أن تكسر الحصار، أو تواجه التمرّد برجولة، وتقاتل قتال الرجال للرجال لتحرير الأرض وفك الحصار، حتى فتك الجوع بشعب لا ينبغي له أن يجوع، لو كانت الحكومة تصغي للنصح.

وقد طالب كثيرون بتحرير هبيلا من عشر عربات مسلّحة، وتمّ التفريط في الدبيبات بعد تحريرها حتى سقطت مرة أخرى في يد مليشيات آل دقلو، وفرض "الأشاوس" بقيادة ناظر الحوازمة حصارًا على جبال النوبة لتجويعها، وجاء عرب أفريقيا الغربية واحتلوا الأرض، وسكنوا في مساكن الذين قهرهم السلاح وأرغمهم على مغادرة ديارهم، حتى بلغ عدد النازحين من محلية القوز إلى أم درمان وحدها 170 أسرة.

استطاع آل دقلو فرض حصار أشد لؤمًا من حصار الفاشر على جبال النوبة. ومنذ يومين، بدأ الناس يتسللون سيرًا على الأقدام هربًا من الدلنج بصفة خاصة، وأرغمت الحرب والجوع الكافر بعض النساء والأطفال على اللجوء إلى مناطق الدعم السريع في الفرشاية، بعد أن ضاقت عليهم الجبال، وشقّ عليهم انتظار أن تُثمر الجباريك الطماطم والذرة الشامية واللوبيا.

لم يعد أمام السكان سوى الهروب من الموت إلى الموت، ومن الجوع إلى القهر.

إنا لله وإنا إليه راجعون.