✍ د. حسن المجمر (رئيس قسم الشراكات والبحوث بمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسان شبكة الجزيرة الإعلامية) : صورة السودان في الإعلام الخارجي: من يرسم ملامحها؟

الجدال الكبير الذي أثاره قرار سحب ترخيص مديرة مكتب قناة العربية والحدث الزميلة لينا يعقوب من ممارسة العمل الصحفي في البلاد يدعونا كمهنيين وإعلاميين سودانيين إلى مناقشة الموضوع من زوايا جوهرية تتصل بدور وتأثير تغطية الإعلام الدولي للنزاع المسلح الدامي الذي تشهده أجزاء عزيزة من بلادنا وهي ولايات دارفور وبعض ولايات الوسط التي تم تحريرها.
دور وسائل الإعلام إيجابا وسلبا:
ليس هناك من شك في الدور الإيجابي الذي لعبته وسائل الاعلام العالمية الناطقة بالعربية حيث أسهمت على سبيل المثال لا الحصر في نقل صور الفظاعات التي تعرض لها المدنيون والمنشآت المدنية، وإتاحتها الفرصة لأصوات الضحايا، وروايات شهود العيان، ومعاناة الناس أثناء تهجيرهم قسريا من بيوتهم وإذلالهم، وسلب ونهب ممتلكاتهم، وقتلهم واغتصاب حرائرهم. كما استعرضت وسائل الإعلام تلك آراء المتحدثين باسم الدولة والقوات المسلحة والمشتركة والمستنفرين معها، بما في ذلك استعراضها لفيديوهات جرائم ارتكبها ووثقها أفراد قوات الدعم السريع المتمردة بأنفسهم عوضاً عن الأقوال والتدخلات المتضاربة للمتحدثين باسمها.
وفي الجانب السالب تجاهلت الكثير من وسائل الإعلام تلك التزام التوصيف القانوني الدقيق لقوات الدعم السريع بأنها قوات متمردة انشقت عن الجيش الذي كانت تتبع لها قانونا، وصرح قائدها صباح يوم 15 أبريل 2023 أنه خلال ساعات سيبسط سيطرته على البلاد ويلقي القبض على القائد الأعلى للجيش ورئيس مجلس السيادة ويقدمه للمحاكمة. كما تجاهلت قرار رئيس مجلس السيادة بحل الدعم السريع، وما تبع ذلك من إجراءات طالبت فيها البلاد بتصنيف الدعم السريع المتمرد كجماعة إرهابية، بل استمرأت أيضاً استخدام مصلح )طرفا الحرب( في مساواة مجحفة بين القوات المسلحة المسؤولة عن صون حدود وسيادة الوطن بموجب القيم الدستورية بمجموعة منشقة متمردة بدأت قتالها مع المناطق العسكرية ثم نقلته إلى صدور المواطنين وبيوتهم التي هي ليست هدفا عسكريا مشروعا(، كما لم تعبأ معظم وسائل الإعلام تلك بتتبع وتقصي اتهامات الحكومة السودانية والجيش لدول إقليمية بتقديم الدعم المادي والاستخباري للمتمردين والمتمثل في إيصال السلاح والذخيرة والمرتزقة وحتى الكساء والغذاء لمقاتليه، على الرغم من إثبات ذلك في مصادر موثوقة تمثلت في تقارير المنظمات الدولية المستقلة وآليات الأمم المتحدة المعنية بحقوق الإنسان، والتغطيات الصحفية لوسائل الإعلام العالمية الغربية.
تأثير التغطيات الصحفية:
أسهمت بعض وسائل الإعلام الدولية الناطقة بالعربية بمنهجية مقصودة أو بدونها في بناء صورة ذهنية مغايرة لطبيعة الصراع بين قوى عسكرية متمردة حاولت السيطرة على البلاد مستخدمة كل ما يتعارض مع مبادئ
القانون الدولي لتحقيق هدف سياسي محدد احتكرته مجموعة سياسية بعينها ودون سواها في البلاد عبر خطة بدعم دولي إقليمي تمثل في )الاتفاق الإطاري( الذي تناول أمورا تجاوزت اختصاص ومهام الفترات الانتقالية التي تلي تغيير الأنظمة في كل مكان، ولا ينبغي خلالها المساس بالمسائل الوطنية الجوهرية مثل )بناء نظام سياسي وأمني في البلاد بما في ذلك إعادة بناء وهيكلة القوات المسلحة والقضاء(، والالتزام فقط بمهام تسيير الخدمات، وحفظ الأمن وتيسير الوصول إلى وسائل الإنصاف المحلية )القضاء(، ودعوة الجميع للمشاركة في بناء وطن يسوده التسامح والعدالة وسيادة القانون، وتهيئة البلاد للانتخابات التي من مخرجاتها إعادة بناء مؤسسات الدولة وتعزيز الثقة فيها استناداً إلى تفويض شعبي ومشروعية دستورية كاملة.
وفي هذا الشأن ركزت معظم وسائل الإعلام تلك على فتح منابرها لمجموعات سياسية محلية لم يسبق لمعظمها الحصول على مقعدين أو حتى مقعد واحد يتيم طوال الفترات الديمقراطية المتعاقبة التي شهدتها البلاد. واستغلت هذه المجموعات الصغيرة لغة لم يعتدها الجمهور العربي في الإقليم عن السودان أو السودانيين الذين عرفوا بالتسامح والعلاقات الاجتماعية القوية التي تسمو فوق كل خلاف، كما ركزت بعض وسائل الإعلام تلك في تغطيتها على كل ما من شأنه إدانة نظام الحكم السابق في البلاد والتنظيم السياسي الذي دعمه بدء من انتقاء انقلاب 89 من بين جميع الانقلابات العسكرية السابقة، ونبش الوثائق والفيديوهات القديمة ولو تعلقت باجتماعات شورى أو مؤتمرات مغلقة تراجع فيها أزمات البلاد وأخطاء القيادات والشخصيات الاعتبارية. دون أن تفرد أي مسألة إيجابية على المستويين الوطنية أو الإقليمي، فالنظام السابق ككل الأنظمة السياسية له سوءات وايجابيات من بينها هبته لنصرة الأشقاء وقد قالها رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة إن البشير استجاب لنداء التحالف العربي قبل الجميع وترك على أعناقنا واجبا لرد الجميل.
هل يحق لوسائل الإعلام أن تمارس حرية التعبير متى وكيف شاءت؟
في كل العالم تُحكم التغطية الصحفية بمعايير مهنية أخلاقية وقانونية، وينحصر هدف وغاية التغطية الصحفية في تحقيق الصالح العام، عبر القيام بدورها الرقابي في مواجهة صناع القرار والسياسات، ومؤسسات المجتمع المدني التي يقدمها الشعب لتمثيله والدفاع عن حقوقه وحرياته .
إذن المعايير الأخلاقية تتجسد في مبادئ الصحافة الأخلاقية ومنها على سبيل المثال )التوازن، والمصداقية، والموضوعية، والدقة، والعمق، والاستقلالية، والحياد وعدم التحيز، والإنسانية.(والمعايير القانونية تتجسد على سبيل المثال في )عدم التمييز، وعدم قابلية الحقوق للتجزئة، والمشاركة الواسعة، والمساءلة، والعدالة وسيادة القانون، وقرينة البراءة، وعالمية الحقوق(
وعليه فإن إسهام الإعلام في كشف الفساد مهم لمحاربته وتمكين الشعوب من الاستفادة من مواردها بإعمال الشفافية والمساءلة، وكذلك كشف الانتهاكات بُغية وقفها ومساءلة مرتكبيها ومنعهم من الإفلات من العقاب، وذلك بغض النظر عن مركز وانتماء مرتكبي الانتهاكات. وفوق ذلك هناك واجبات ومسؤوليات خاصة تقع على الإعلاميين ووسائل الإعلام عند ممارستهم لحقهم في حرية التعبير، حيث ينص العهد الدولي الخاص المتعلق بالحقوق المدنية والسياسية في المادة (19) منه على جواز وضع بعض القيود عند تناول قضايا )حماية الأمن القومي والنظام العام والآداب العامة والصحة العامة، إلى جانب احترام حقوق الآخرين وسمعتهم(، وتلك
القيود مشروطة بأن تكون ضرورية ومنصوصا عليها قانونا بشكل لا يجعلها تحتمل التأويل أو الاستخدام المتعسف من قبل السلطات.
وفي السياق نفسه يحظر بموجب القانون أية دعوة للكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية التي تشكل تحريضا على التمييز أو العداوة أو العنف. )سنعود لاحقا للكتابة حول خطاب الكراهية وأشكال حرية التعبير لفض الاشتباك البائن حول الموضوع.(وبهذه المناسبة جمهورية السودان ومعظم دول المنطقة هي طرف في العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وغير متحفظة على المادة (19) منه وهذا ما دعانا لاستدعاء الفقرة أعلاه.
هذا المعيار الدولي يفرض على السودان وجميع الدول الأطراف أن تسن قوانين واضحة، وتضع سياسات وطنية معلنة تكفل حرية التعبير وحرية الصحافة وتحدد حقوق وواجبات وسائل الإعلام وتحد من تقييد عملها بما يخالف تلك المعايير ويحقق الصالح العالم.
كما أن الدولة مسؤولة عن بناء قدرات صحافييها وكوادرها الوطنية المسؤولة عن تنظيم ممارسة حرية الصحافة حتى لا يطلق لها العنان لتهزم سقف الحريات الذي يتمتع به المواطنون وغيرهم في بلادنا التي تجذرت فيها الحريات العامة منذ أمد بعيد.
هل هنالك دولة في المنطقة تسمح بسقف التغطية الموجودة في السودان؟
أريد منك عزيزي القارئ أن تتبنى بنفسك الإجابة هذا السؤال من خلال تحليلك للتغطيات الإخبارية للأحداث الجارية التي تشهدها البلاد بسبب الحرب، أو التغطيات البرامجية الاستقصائية او الوثائقية، ومدى إمكانية وصول الإعلاميين ووسائل الإعلام للمعلومات، وعدم وجود سقف في لتناول القضايا، ونشرها دون قيود، وتعاون الضيوف وتنوعهم من مسؤولين حكوميين ومعارضين سياسيين وقيادات عسكرية، واستنطاق أصحاب المصلحة من المواطنين من الضحايا وذويهم، وعملية البث المباشر.
كما أدعوك عزيزي القارئ والمهتم إلى مقارنة حجم التغطيات التي تجرى في السودان مع التغطيات المماثلة لها في دول المنطقة. عندها ستكون الحقيقة بائنة أمامك!!
من جانبي أود أن أختم بطرح هذه الأسئلة:
.1 هل سيغير قرار سحب ترخيص الزميلة لينا يعقوب ومنعها من العمل في السودان تغطيات قناتي العربية والحدث؟
.2 وهل الزميلة لينا يعقوب هي التي ترسم سياسة القناتين حيال تغطية النزاع المسلح في السودان؟ .3 هل تقوم وزارة الإعلام أو الإعلام الخارجي برصد وتحليل صورة السودان في الإعلام الدولي؟
الدوحة، قطر حسن المجمر2025@