✍ أحلام محمد الفكي : جريمة في حق الإنسانية ؛ حين يختلط الدواء بالفساد

في عالم تتقاذفه الأمواج وتتوالى فيه الكوارث، يبقى هناك حقيقة واحدة لا تتغير: أن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. هذه الآية الكريمة ليست مجرد كلمات، بل هي بوصلة ترشدنا إلى أن التغيير يبدأ من الداخل، وأن الخلاص لن يأتي إلا إذا تطهرت النفوس من دنس الطمع والجشع. فإذا لم تكن الحروب والأزمات كافية لتهذيب النفوس وإيقاظ الضمائر، فعلى الدنيا السلام. ما زال الجشع يلقي بظلاله القاتمة على قلوب الكثيرين، وتاريخ البشرية يثبت أن الأمم لم تهلك إلا بسبب الظلم، والتطفيف في الميزان، والفساد، والاحتكار. كان يجب أن تكون هذه الدروس حاضرة في أذهاننا، لكن يبدو أننا نصر على تجاهلها.
تتوالى الأخبار علينا كل يوم، وكل خبر يأتي يحمل في طياته مرارة جديدة. وفي قلب المعاناة التي يعيشها المواطن السوداني، حيث الأوبئة والأمراض تفتك بالأجساد، يأتينا خبر صادم يفاقم الألم ويؤجج الغضب. ففي مشهد يدمي القلب، تكشف الأقنعة عن وجه بشع للفساد والإهمال.
بصوت يختلط فيه الغضب بالأسى، فجّر وزير الصحة السوداني قنبلة مدوية، معترفاً بوجود أزمة دواء خانقة في البلاد. لكن الكارثة لم تكن في الأزمة نفسها، بل في سببها. لقد أعلن الوزير أن مخازن الإمدادات الطبية ممتلئة حتى سقفها بالعقاقير الحيوية والمحاليل الوريدية، التي كان من المفترض أن تكون شريان الحياة للمرضى المحتاجين. لقد كانت تلك الأدوية، التي يبحث عنها المرضى وذووهم بالدموع، متكدسة على الأرفف، محجوبة عن من يستحقونها، كأنها كنوز لا يُسمح بلمسها.
لقد كان مشهد الوزير وهو يقف داخل أحد هذه المخازن، ويشير إلى الأدوية المكدسة، دليلاً قاطعاً على ما يتردد من اتهامات حول التعطيل المتعمد للإمدادات. لم يكن الأمر مجرد بيروقراطية مملة، بل كان جريمة مكتملة الأركان بحق أرواح بريئة. تقارير صحفية تحدثت عن تورط موظفين في تعطيل وصول هذه الأدوية، ليتحول الدواء الذي خلقه الله سبباً للشفاء، إلى أداة للمساومة والفساد والاحتكار.
وفي الوقت الذي يصارع فيه المرضى في المستشفيات من أجل الحصول على جرعة دواء قد تنقذ حياتهم، كانت هذه الجرعات مخبأة عنهم، وكأنها ترف لا يستحقونه. إنها ليست مجرد أزمة إدارية، بل هي جناية أخلاقية تلطخ سمعة كل مسؤول تقع عليه عاتق المسؤولية.
وزير الصحة تعهد بمحاسبة المتسببين، مؤكداً أن حياة المرضى ليست محلاً للمساومة، وأن هذه الجريمة لن تتكرر. لكن السؤال الذي يفرض نفسه: هل ستكون هناك محاسبة حقيقية؟
وهل ستعود الثقة إلى قلوب المواطنين الذين يشاهدون أن أرواحهم قد تتحول إلى أوراق في لعبة فساد لا نهاية لها؟
إن معاناة المواطن السوداني تتجاوز حدود الألم الجسدي، لتصبح معاناة روحية من انعدام الإنسانية.
اللهم ردنا إليك ردًا جميلًا، واجعل ضمائرنا يقظة لا تنام، وانزع من قلوبنا كل ما يفسدها. فالأمر لا يتعلق بمرض أو دواء، بل يتعلق بأرواح تزهق بسبب الجشع، وكرامة تُداس تحت أقدام الفساد.