رؤية جديدة السودان

رؤية جديدة السودان

قناة رؤية جديدة
أهم الأخبار

✍ عزمي عبد الرازق : زادنا ؛ كيف نهض المشروع الإنتاجي العملاق من ركام الحرب؟

كانت شمس ولاية نهر النيل تشوي الوجوه حين اصطحبني المهندس أحمد عبد العظيم في جولةٍ بين مساحات مشروع "زادي ون"، وهو ذات الفاصل المداري الذي يتلظى بنزعة الظهيرة، ليؤكد أن الزراعة في بلادنا ليست مهنة بل مقاومة، وحين وجدت من يبذل عرقه يمد المشعل لمن يبذل دمه، تذكّرت مقولةً لجنرالٍ سوداني: "عرق التدريب يوفر دماء المعركة". كانت أخبار الحرب ومجازر الجنجويد في الفاشر وبارا جاثمة على أنفاسي، ومع ذلك سرت في أوصالي طاقةٌ إيجابية لا تفسير لها، تشبه الإيمان الأول بفكرةٍ نبيلة.

قلت في نفسي: هذا هو الوجه الآخر من معركة الكرامة، يدٌ تقاتل ويدٌ تبني، لن نستسلم، ولنا في التاريخ الإسلامي عِظة، فبعد مصعب بن عمير، قريب الشبه برسول الله، وبعد أسد الله حمزة بن عبد المطلب، وعبد الله بن جبير قائد الرماة في معركة أحد، لم تسقط الراية، استلمها الفارس والإمام علي بن أبي طالب. هكذا نحن أيضاً — نتعثر، نسقط، نتألم، ثم ننهض من جديد، أو كما قال القاص المصري يوسف إدريس: «ما أروع أن نبدأ دائماً».

في تلك الجولة، بدت لي ولايتا نهر النيل والشمالية كأنهما تسبحان في بساطٍ أخضر لا نهاية له، هو بالتأكيد مشروع "زادي واحد" الذي كنت أظن أنه انتهى برحيل مؤسسه، فعاد، كما أراه أمامي، ينهض في حلّته الجديدة، مردداً بصوتٍ مضياف: "مرحباً.. أنا هنا".. يا إلهي، أيّ حلمٍ هذا الذي يمتد على مليون فدانٍ من الضوء والماء والتراب، يحتاج إلى أيامٍ متواصلة لتطوف على أطرافه، وإذ ترنو بيارات المانجو والبرتقال، تسمع أنين الآلات العملاقة. وضعت لتوي الخوذة على رأسي، متسلحاً بإجراءات السلامة الهندسية لتفادي سقوط الأجسام، وقد اشتعل الرأس دهشةً بعد أن أخبرني المهندس: “العمل لم يتوقف يوماً، حتى في أيام الحرب الأولى... نحفر ونشق الطرق والقنوات تحت أصوات المدافع والمسيّرات.”

تذكرتُ حينها سؤالاً طرحته على الدكتور طه حسين، المدير العام لشركة زادنا العالمية المحدودة: من أين تأتي بالموارد لمشروعات بهذا الحجم، وهي لا تموَّل من الدولة ولا تعتمد على تصفية الأصول؟ ابتسم ولم يُجب، وكنت أعلم أن في تلك الابتسامة سرّاً من أسرار اختياره لهذه المهمة الوطنية، فهو بالطبع لا يملك خزائن الأرض، لكنه يملك مهارةً نادرة في استنبات الموارد وتطويرها.

ما يميز "زادنا" حقًا أنها لم تعد تعتمد على ميزانيات الدولة، ولم تلجأ يوماً إلى بيع أصولٍ أو ممتلكات عامة لتغطية نفقاتها. بل المدهش أن الشركة، في أصعب مراحل العدوان، نجحت في زيادة أصولها بأكثر من 20%، ورفعت عدد كوادرها لمهامٍ تنموية مختلفة، وصنعت بيئةً عمل جاذبة للكفاءات والخبرات السودانية المهاجرة، ونظام إدري أشبه بخلية النحل، قلت في سري" ما شاء الله".

كان أحد الأصدقاء يقول لي ونحن نتنقل كالفراشات من صحيفةٍ إلى قناةٍ فضائية: "نحن نبحث عن الأمان الوظيفي"، ولك أن تتخيل فقط — وأدي ربك العجب — عشرات الشركات التي كانت ملء السمع والبصر سرّحت موظفيها في اليوم الثاني للحرب، بينما زادنا فعلت العكس تماماً، فلم تكتفِ بالمحافظة على كوادرها واستقطاب خبرات جديدة، بل أقامت شراكاتٍ مدروسة مع مؤسساتٍ وبيوت خبرة داخلية وعالمية، تستند إلى دراسات احتياج دقيقة، لا إلى المصادفات أو المجاملات، لذلك تبنت "زادنا" نموذجاً إنتاجياً مستقلاً يُعيد تعريف معنى الإدارة الوطنية في زمن الندرة والانهيار.

مشروع "زادي واحد" ليس مجرد مزرعة، بل مدينةٌ للخصب والنماء، يمتد على مساحة مليون فدان، تتوزع فيها 3,500 وحدة ريٍّ محوري، و32 مضخة تضخ الحياة بقدرة 104 أمتارٍ مكعبة في الثانية، في طرفه حظائر لتسمين أكثر من 51 ألف رأسٍ من العجول، وأخرى للأبقار الحلوب بطاقة 380 بقرة، وحظيرتان للدواجن تنتجان أكثر من مليوني بيضة يومياً، وفي منتصف هذا الحلم الجميل، مصنعٌ لتجفيف البيض هو الأول من نوعه في السودان وشمال أفريقيا تقريباً، إلى ثمانية آلاف عامل يتهيأون لموسمٍ قادم قد يخلق مئة ألف فرصة عملٍ أخرى حين يكتمل المشروع، وعلى وشك إطلاق مرحلته الأولى، فيما تأكد لي أن هذا ليس مشروعاً زراعياً تقليدياً، بل منظومة إنتاجٍ متكاملة: زراعة، تصنيع، تغليف، وتسويق — سلسلة قيمة مكتملة تُعيد ربط الريف بالعالم، ثمة مطار على مقربةٍ، ومعادلة تستحق رفع القبعات: لا تمويل من الدولة، لا ديون، لا استدانة، ننتج، نصنع القيمة المضافة، ونصدر، فزادنا تموّل ذاتها، وتزرع وتنتج لكل الشعب السوداني.

المشروع ليس يتيماً؛ فهنالك ثمانية مشاريع في نهر النيل وثلاثة في الشمالية تُعاد الآن إلى الحياة. رافعاتٌ حديثة، وكريناتٌ جديدة بسعة مئتي طن تُجهّز للطوارئ، وست مضخات “بوشان”، وكل شيء يسير وفق خطةٍ لا تعرف التأجيل، وكأنهم في سباقٍ مع الموت، أو بالأحرى مع الحياة.

شعرتُ بالدوار، وربما كان نفس الإحساس الذي غامر الشاعر عمر الدوش حين لوّحت له سعاد بغنجٍ قائلة: تعال، فكان شعوره الخجول " كِبرَت كراعي من الفرح نُص في الأرض ونُص في النعال"، الأرض هنا لا تسعني. إنها معركة الإعمار، وهي الأصعب، ومع ذلك فإن رسالة زادنا تتجاوز الحقول والمزارع، في الشمال والشرق، حيث تمتد الصحراء، رأيت سيارات الشركة تحمل الطعام والكساء إلى القرى المنكوبة.

وقد تدخلت مع بداية الحرب وهزمت مؤامرة المجاعة حين سيطرت المليشيا على المشروعات الزراعية، حينها نجح الدكتور طه حسين وفريقه في سد الحاجة، إلى اليوم، تجدهم في المراكز الصحية المؤقتة، حيث يظهر شعار زادنا على عبوات المحاليل الوريدية والناموسيات الواقية التي أسندت وزارة الصحة في معركتها ضد الكوليرا وحمى الضنك.

وقد وفّرت الشركة أكثر من 70 ألف محلول وريدي وناموسية واقية، بمعدل 15 طناً من الأدوية دعماً للجهود الوطنية لمكافحة الأوبئة، كما حفرت 31 بئراً لتأمين مياه الشرب في مناطق مختلفة، مساهمةً في صون حق الحياة.

ومنذ اندلاع الحرب، لم تغب زادنا عن المشهد الإنساني، إذ أمّنت ووزعت 200 ألف طن من المواد الغذائية لتثبيت الأسواق ودعم المواطنين، وقدمت 31 ألف قطعة ملابس و10 آلاف غطاء للمتضررين في إطار جهود المسؤولية المجتمعية، كأنها وزارة شؤون اجتماعية متكاملة.

وفي مسارٍ موازٍ، واصلت جهودها في تشييد أكثر من 400 كيلومتر من الطرق المسفلتة، وتشغيل مطار عطبرة الحيوي، وتعمل في مطارات ومشروعات أخرى، سوف يأتي زمان ذكرها، دعك من مدينة الذهب والموانئ البرية في الجزيرة وعطبرة ودنقلا، كما شرعت الشركة في فرش 200 مسجد في مبادرةٍ تجمع بين البناء المادي والروحي.

تلك المسؤولية المجتمعية لا تقل أهمية عن نشاطها الزراعي، فهي تُمارَس بثقل حكومةٍ كاملة بميزانيتها السنوية، لكنها بلا ضجيج، بلا عدسات، بلا إعلان، حتى أنهم ربما لا يقبلون نشر هذه المادة، إذ لم أستأذنهم، غير أني أيقنت أن هذا العمل الكبير لا ينبغي أن يتوارى كعروسٍ في خدرها، نحتاج إلى فتح طاقة أملٍ في زمن النزوح والخوف، لتردّ عطور تلك العروس الحسناء — زادنا — الروح فينا من جديد.

وهنا، زادنا ليست محض شركةٍ حكومية، بل مؤسسةٌ تصنع الحياة ليلاً ونهاراً، تهيئ 11 مشروعاً بتمويلٍ ذاتي للنهضة الزراعية في نهر النيل والشمالية والنيل الأزرق، وتعمل على صيانة محطات الري استعداداً للمواسم القادمة.

وفي كل ما تفعل، تترجم شعارها البسيط والعميق “زادنا تبني لأمةٍ تستحق.”، وهى، في الحقيقة لا المجاز الذي كان وردي يتغنى فيها للوطن " بحبك حقيقة وبحبك مجاز وناسك عزاز"، لم تبنِ زادنا حقولاً فحسب، بل أعادت تعريف معنى الصمود، أن تعمل في زمن الحرب، أن لا تتكئ على الدولة، أن تُنتج رغم الانهيار، أن تخدم شعبك قبل نفسك، وأن تحيا بقيم التضامن لا التمكين.

نواصل في الرحلة...