رؤية جديدة السودان

رؤية جديدة السودان

قناة رؤية جديدة
أهم الأخبار

عمّار العـركـي... يكتب :ما بين رسائل الوفود وطلقات المقالات: ما الذي يجري بين إثيوبيا وإريتريا ؟

عمار العركي
عمار العركي

▪️في مقالنا السابق ضمن زاوية (خبر وتحليل)، توقفنا عند زيارة وفد أمني إثيوبي رفيع إلى السودان، بقيادة مدير جهاز المخابرات الإثيوبي، وما حملته الزيارة – من حيث التوقيت والموقع والتمثيل – من رسائل سياسية وأمنية مبطنة، ليس فقط نحو الخرطوم، بل خصوصًا نحو الجارة اللدودة إريتريا. وقلنا إن هذه الخطوة ليست معزولة عن حالة الاستقطاب الإقليمي المتفاقم، وإنها تحمل في طياتها إشارات مقلقة قد تُعيد خلط أوراق التحالفات داخل القرن الإفريقي.

▪️واليوم، لم نكن بحاجة لانتظار طويل لتأتي التطورات متسارعة ومكملة للمشهد؛ حيث خرجت أديس أبابا بلهجة هجومية علنية ضد أسمرا، مطالبة المجتمع الدولي بالضغط على إريتريا لسحب قواتها من "أراضٍ إثيوبية محتلة"، ومتهِمة الرئيس الإريتري بتغذية الفتن الداخلية ودعم الجماعات المسلحة.
▪️هذا التصعيد الإثيوبي المفاجئ يضع ما جرى في بورتسودان تحت ضوءٍ مختلف وتحليل أعمق؛ إذ لم تكن زيارة الوفد الإثيوبي مجرد تعزيز للعلاقات الثنائية أو تنسيق في ملفات مشتركة، بل جاءت – على الأرجح – ضمن خطة إثيوبية لإعادة التموضع الإقليمي، وتوجيه رسائل مباشرة إلى أسمرا عبر البوابة السودانية.
*مــا الــذي يحــدث في أدـيس أبــابــا؟*
▪️في تطور لافت، دعا السفير دينا مفتي – عضو لجنة العلاقات الخارجية في البرلمان الإثيوبي والمتحدث السابق باسم وزارة الخارجية - من صقور "الأمهرا" التي كانت متحالفة مع ابي احمد، بجانب وزير الخارجية السابق "موكنن" الذين كانوا خلف تصعييد موضوع آراضي الفشقة مع السودان باعتبارها آراضي أمهرية.- المجتمع الدولي إلى الضغط على إريتريا لسحب قواتها من أراضٍ إثيوبية، في مقالة نشرها عبر موقع Horn Review.
▪️وهاجم مفتي الرئيس الإريتري أسياس أفورقي، متهمًا إياه بإشعال الفتن بين القوميات الإثيوبية، ودعم جماعات مسلحة داخل البلاد، قائلًا: ( أسياس لديه عادة قديمة في اللعب على وتر العرقية وتحريض مجموعة ضد أخرى، وهو لا يكتفي بالكلام، بل يقدم دعمًا ماديًا مباشرًا للمتمردين... إنه يشعل النار في القرن الإفريقي ويجب كبحه قبل أن تحترق المنطقة بالكامل)
*_أسئلــة مـشروعــة: لمـاذا الآن_ ؟*
▪️ما يُثير الاستغراب هو توقيت هذا التصعيد. فبعد مرور أكثر من عامين على توقيع اتفاق بريتوريا للسلام، تتذكر الحكومة الإثيوبية فجأة أن هناك أراضٍ محتلة من قبل إريتريا؟ فطيلة الحرب ضد إقليم تيغراي، كانت الحكومة الإثيوبية إما صامتة أو متواطئة تجاه التواجد الإريتري في شمال البلاد. بل إن رئيس الوزراء آبي أحمد صرّح سابقًا بأن: "إريتريا في أراضيها"، "ولولا إريتريا لضاعت إثيوبيا"، في مواقف اعتُبرت حينها تحديًا للتيغراي، وتأييدًا غير مباشر للاحتلال.
▪️لكن بعد أن فشلت خطة إشعال نزاع مباشر بين إريتريا وتيغراي، وخصوصًا بعد بوادر تقارب غير معلنة بين الطرفين مؤخرًا، بدأت أديس أبابا بتبديل لهجتها لتظهر كمدافع عن السيادة الوطنية.
*_مـــا وراء الستـــار_* ؟
▪️هذا التحول في الخطاب الإثيوبي لا يمكن قراءته دون الربط بين المعطيات التالية:
زيارة وفد المخابرات الإثيوبي إلى السودان، وعلى رأسه رضوان حسين، الذي يشكل امتدادًا لفترة حكم جبهة التيغراي، وكان قائدًا لتيار السلام داخلها، ومرافقه المستشار "قذتاشو رضا"، الموقع على اتفاق السلام مع الحكومة الإثيوبية في بريتوريا.
▪️الحساسية الإريترية تجاه أي تقارب سوداني - تيغراوي - إثيوبي، في ضوء علاقة الخرطوم التاريخية المتذبذبة مع أسمرا، حيث يُنظر في أسمرا لأي تقارب ثلاثي خارج منظومة "التحالف مع إريتريا" كتهديد مباشر.
▪️البُعد المصري: في ظل التوتر المزمن بين القاهرة وأديس أبابا بسبب سد النهضة، تعتبر مصر أي تصعيد إثيوبي ضد إريتريا – التي تربطها علاقات جيدة مع القاهرة – جزءًا من معركة النفوذ الإقليمي في البحر الأحمر، وقد يُدفع السودان نحو مربع الاختيار القسري بين محاور متصارعة.
*_ما الـــذي تسعـــى إليــه أديس أبــابــا_ ؟*
▪️يمكن تلخيص أهداف التصعيد الإثيوبي ضد أسمرا في الآتي: إعادة رسم الصورة أمام المجتمع الدولي: أديس أبابا تحاول التخلص من "تهمة التواطؤ" مع إريتريا في حرب تيغراي، وتقديم نفسها كضحية.
▪️قطع الطريق على أي تقارب بين تيغراي وإريتريا، خصوصًا بعد أن بدأت الأخيرة في استقبال شخصيات تيغراوية رافضة لاتفاق سلام بريتوريا .
▪️تعبئة الداخل الإثيوبي خلف خطاب "السيادة"، في وقت تتعرض فيه حكومة آبي أحمد لضغوط داخلية واسعة بسبب الفشل الاقتصادي والانقسام العرقي.
▪️ابتزاز الأطراف الغربية، والتلميح بأن ترك أسياس أفورقي طليق اليدين قد يُشعل الإقليم برمته.
*_علي السودان... الحياد الذكي لا الانحياز_*
▪️ما يُقلق السودان هنا، هو أن القرن الإفريقي مقبل على موجة جديدة من الصراع البيني، مدفوعة بإعادة الاصطفاف وتحركات الأجهزة الأمنية والمخابرات، وقد يجد السودان نفسه مرة أخرى ساحة لتصفية الحسابات بين أديس وأسمرا، في وقت هو أحوج ما يكون فيه إلى الحياد، والتفرغ لمعركة الداخل.
في ضوء هذا التصعيد الجديد بين إثيوبيا وإريتريا، وفي ظل التقاطعات المعقدة بين ملفات الداخل الإثيوبي وتحولات الإقليم، يُصبح من الضروري على السودان أن ينتهج سياسة "الحياد الذكي"، التي تقوم على عدم الانحياز لأي من طرفي النزاع، مع السعي لحماية مصالحه الحيوية دون الانجرار إلى صراعات الآخرين.
▪️إن التسرع في الانخراط في محاور إقليمية متصارعة، سيجعل من السودان ساحة بديلة لتصفية حسابات الجيران. ولذلك، يُستحسن أن يوظف هذا التوتر لتعزيز موقعه التفاوضي مع إثيوبيا في ملفات الحدود وسد النهضة، كما أن عليه تعزيز قنوات التنسيق الاستراتيجي مع مصر، خاصة أن كلا البلدين معنيّان باستقرار الإقليم وأمن البحر الأحمر، دون أن يكونا طرفًا في الحروب بالوكالة التي تستنزف الجميع ولا يربح فيها أحد، في هذه اللحظة الحرجة، الانكفاء على المصلحة الوطنية وحده هو الخيار الآمن والعقلاني
*_خــلاصــة الـــقـــول ومـنتهــاه_ :*
▪️ليس من باب المصادفة أن يتزامن التصعيد الإثيوبي ضد إريتريا، مع تقارب إثيوبي مفاجئ تجاه السودان. وليس من باب الحرص الصادق أن تتذكر أديس أبابا فجأة أنها تحت الاحتلال الإريتري.
▪️نحن أمام هندسة جديدة للمشهد الإقليمي، تُعيد فيه إثيوبيا تموضعها وتحالفاتها، وتُعيد فتح ملفات كانت مغلقة. واللاعبون الأساسيون – من السودان إلى مصر، ومن إريتريا إلى التيغراي – جميعهم في عين العاصفة.
▪️والسؤال الأهم الآن: هل نحن في السودان نُدرك أننا في قلب "لعبة أمم" جديدة ... أم لا نزال نظن أن ما يحدث حولنا مجرد "أحداث متناثرة"؟