✍ د. ماجد السر عثمان : مراسي الخرطوم تشرق من تحت الرماد (4) حتى لا نُلدغ من الجُحر مرات الشرطة والدور الحاسم في تجفيف الجريمة ما بعد الحرب

الشرطة السودانية، كغيرها من مؤسسات الدولة العريقة، لها سجل مشهود بالكفاءة والنزاهة، بفضل كوادرها المؤهلة وطاقاتها المتميزة. وقد أثبتت حضورها اللافت في المحافل الإقليمية والدولية، من خلال مشاركات فاعلة في المؤتمرات والورش المتخصصة، فضلاً عن إنجازاتها الأمنية داخليًا، حيث ظل عقلها الإبداعي يسبق عقلية المجرم بخطوات، فكشفت وفككت أعقد القضايا الجنائية.
واليوم، بعد الحرب، ينتظر الشرطة دور محوري واستثنائي، ليس فقط في تأمين ما تبقى، بل في استعادة الثقة العامة وبسط هيبة الدولة. إنه دور مزدوج: عقابي ووقائي.
لقد كشفت تجربة الخراب الأخيرة التي أحدثتها مليشيا الدعم السريع، أن هذه الجريمة لم تكن لتحصل لولا وجود حواضن مجتمعية معلومة، كانت بالأمس القريب بؤرًا للجريمة والانحراف، واليوم وفرت للمتمردين المأوى والإرشاد. هذه الأوكار يعرفها الجميع، وعلى رأسهم جهاز الشرطة، فقد كانت مصدر قلق أمني دائم قبل الحرب، لكنها إتستفحلت بلا معالجات حاسمة.
المؤسف أن أفراد هذه المجموعات، ممن اتخذوا من الجريمة مهنة وهواية، لم يكن دافعهم الحاجة أو الفقر، بل الاستمراء والشره، حتى غدا الحرام لا يشبعهم، والدم لا يروِ ظمأهم. إنهم ذئاب مسعورة، ترصدت فريستها لسنوات، وما إن لاح لها الظرف المناسب حتى انقضت، ونهشت ما تبقى من جسد الوطن.
إن الواجب الوطني اليوم يحتم علينا تقديم تشخيص شجاع وواضح لهذه المجموعات، دون مجاملة، مع تحديد من تورط فيها بالأسماء والمواقع، وتقديمهم للعدالة.
ولكن لا يكفي العقاب وحده، بل لا بد من معالجات علمية عميقة تضع حداً لتكرار هذه الظواهر مستقبلاً، من خلال سياسات اجتماعية وأمنية واقتصادية متناغمة، تعيد البناء من الجذور.
فالشرطة، بما تملك من خبرات ومهنية، مدعوة اليوم لأن تكون في قلب مشروع النهضة، لا فقط كأداة أمنية، بل كفاعل مجتمعي يسهم في إعادة ترميم الثقة بين الدولة والمواطن، ويؤسس لعهد جديد تسود فيه العدالة ويُؤمَن فيه الإنسان.