✍ د. ماجد السر عثمان : مراسي ؛ الخرطوم تشرق من تحت الرماد (5) في زمانٍ كان الكرم مبدأً لا ترفاً

قديماً، كان في الناس من مكارم الأخلاق ما يُدهش، وكان الكرم وحُسن الاستقبال عنوان البيوت وزينة المجالس. تلك مبادئ إنسانية اتفقت عليها الفطرة قبل أن تنزل الكتب، وتواطأ عليها الناس دون حاجة لمرجعية دينية أو إثنية.
كان كبير القوم من يُعرف ببذله لا بجاهه، وباتساع بيته لا بضيق قلبه. لا تُغلق دونه الأبواب، ولا تُردُّ عنه السائلون. بيتُه "جفنةٌ ما يُغلق الباب دونها"، كما قال زهير بن أبي سلمى، يُطعم فيها الطارق والغاشي، ويؤوي الملهوف دون سؤالٍ عن الاسم أو السبب.
كل شعراء الجاهلية، على ما قيل فيهم، كانوا يفخرون بالكرم، ويُفاخرون به في الأسواق والمجامع. لم يكن الكرم لديهم شعاراً، بل ممارسة حقيقية ينفقون فيها من حرِّ أموالهم لا من أموال الناس.
ولما تفاخر حاتم الطائي بكرمه قال:
إذا ما بتُّ أطرقُ باب قومي
وجدتُ الجودَ قد سبقَ المقالا
بل كان بعضهم يقول:
أُنفقُ مالي ولا أعدّهُ
ما دام في المال من يسألُ
ولعل أعظم مشهدٍ في تاريخ الإنسانية جمعاء، ما فعله الأنصار حين استقبلوا المهاجرين في المدينة، فتفانوا في الإيثار، وتنافسوا في العطاء. حتى قال أحدهم لأخيه المهاجر: "لي زوجتان، فانظر أيهما أعجب إليك فأطلقها، فإذا انقضت عدتها تزوجتها!"، وهو موقف يندر أن يوجد له مثيل في التاريخ.
أما اليوم، وقد عدنا إلى الخرطوم بعد المحنة، وجدنا في الناس انقلابًا في الموازين... الكل يلهج بـ"نفسي نفسي"، وكأنهم في لحظة الحشر!
وليت الأنانية كانت في المال الخاص، لكنها امتدت إلى المال العام، إلى الفرص، إلى الرعاية، إلى أبسط أشكال المؤازرة. أصبح القريب لا يسأل عن قريبه، والصديق لا يحفل بجراح صاحبه. وكأننا في "يوم يُفرُّ المرء من أخيه"، قبل أوانه!
أكتب هذا وقد وجدت أن عودة الخرطوم ليست فقط إلى جغرافيا الحياة، بل يجب أن تكون أيضاً إلى أخلاقها التي عُرفت بها... الخرطوم التي كانت تضج بالعطاء، وتفتح قلبها قبل دارها، يجب أن تُشرق من تحت الرماد بقيمها أولاً.
الخرطوم اليوم تحتاج إلى الأنصار الجدد، إلى من يواسون جراحها، لا من يكدّسون على أطلالها الغنائم.
فلنُحيِ في قلوبنا سيرة الأولين، ولنُوقظ في ذاكرتنا معنى الجار والرفيق، وحق الضعيف والمُصاب. الخرطوم لا تُبنى بالحجارة فقط، بل تُبعث بالحُب، وتُرمم بالتكافل، وتُضيء من جديد حين تمتد الأيادي بالخير دون منٍّ ولا أذى.
يا أهل الخرطوم، عودوا كما كنتم...
"بيوتاً مشرعة، وقلوباً مفتوحة، وموائد لا يُسأل فيها الضيف من أين أتى."
فمن لا يُجيد الكرم في زمن الحاجة، كيف يُجيد البناء في زمن العافية؟