✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ هل إنتهي زمن الكذب السياسي؟

في عالم السياسة، أصبح الكذب أداة مألوفة تُستخدم لتزيين الواقع وتضليل العقول. لم يعد السياسي يخجل من تزييف الحقائق أو قلب الموازين، بل صار يتفنن في صناعة الوهم وبيع الأمل الزائف للشعوب المتعبة.
الكذب السياسي ليس مجرد خطأ أخلاقي، بل هو جريمة في حق الوعي الجمعي للأمم. حينما يُكذب القائد، يُهدم جسر الثقة بينه وبين شعبه، وتُصاب مؤسسات الدولة بالشلل، لأن الحقيقة هي روح السياسة النظيفة، فإذا غابت، مات الضمير الوطني وتحول الحكم إلى مسرح من الخداع والمصالح.
اليوم، نشهد الكذب السياسي في أبهى صوره: شعارات بلا مضمون، ووعود بلا تنفيذ، وتبريرات لكل فشل. حتى صار الناس لا يصدقون شيئًا، ولا يثقون بأحد. هذه الحالة أخطر من الكذب ذاته، لأنها تُنتج أجيالًا لا تؤمن بالصدق أصلًا.
إذا استمر الكذب السياسي في تمدده، فلن تسقط الحكومات فقط، بل ستنهار منظومة القيم كلها. فالأوطان لا تُبنى بالكلمات المزيفة، بل بالصدق والشجاعة في مواجهة الواقع. والسياسي الصادق، مهما أخطأ، يبقى أنبل من الكاذب الذي يتقن الخداع.
في المشهد السياسي السوداني والعالمي على السواء، صار الكذب السياسي سلاحًا خطيرًا يُستخدم لتجميل القبح وتبرير الفشل. أصبح الكذب سياسة بحد ذاته، تُدار بها الأزمات وتُصنع بها الخطابات وتُسكَّن بها آلام الشعوب التي أنهكتها الحروب والوعود الكاذبة.
في السودان، عانى الناس طويلًا من هذه الظاهرة. كل مرحلة سياسية كانت تبدأ بالوعود وتنتهي بالخذلان. تُرفع الشعارات باسم الوطن، لكن الحقيقة أن كثيرًا من الساسة لا يرون في الوطن إلا سلّمًا لمصالحهم. يحدّثون الناس عن التنمية والعدالة، بينما يعيش المواطن في فقرٍ وحرمانٍ وانقطاعٍ دائم للأمل.
الكذب السياسي في السودان لم يكن مجرد تزييفٍ للحقائق، بل أصبح ثقافةً متوارثة، تُمارسها بعض النخب بدهاءٍ وتغلفها بخطابات الوطنية. حتى صار المواطن البسيط يميّز الكذب من أول خطاب، لكنه مجبر على الاستماع لأنه لا بديل أمامه.
لقد تحوّل الكذب السياسي إلى مرضٍ يصيب جسد الدولة، يضعف مؤسساتها ويقتل روح الثقة. فحينما يفقد الشعب ثقته في السياسيين، تنهار العلاقة بين القيادة والقاعدة، ويبدأ الانفصال النفسي بين المواطن والدولة. عندها لا تنفع الخطابات، ولا الشعارات، ولا حتى الوعود الصادقة بعد فوات الأوان.
الكذب السياسي هو ليس عَرَضًا عابرًا، بل هو انعكاس لأزمة أخلاقية وفكرية. فحينما يُبنى النظام السياسي على المصالح لا المبادئ، يصبح الكذب وسيلة للبقاء. والسياسي الذي يبدأ بالكذب ليصل إلى السلطة، سيضطر إلى مضاعفته ليحافظ عليها. وهكذا تتسلسل حلقات الخداع حتى ينهار كل شيء من الداخل.
الكذب السياسي طريق قصير نحو الهاوية. قد يخدع الناس لبعض الوقت، لكنه لا يستطيع أن يصنع واقعًا دائمًا. وحده الصدق هو ما يُعيد للدولة هيبتها، وللشعب ثقته، وللسياسة معناها الشريف.
فلتكن السياسة في السودان القادمة سياسة الصراحة لا التضليل، وسياسة العمل لا الوعود.
عندها فقط يمكن أن نسأل: هل انتهى زمن الكذب السياسي؟ وسودان مابعد الحرب اقوي واجمل