✍ د. ماجد السر عثمان : حُزنُ المراسي... (عيسى السراج)

في عام 2003 وفي الأيام الأولى لتسلّمي منصب مدير الإدارة العامة للثقافة والإعلام بولاية الخرطوم، استأذنت السكرتيرة بدخول زائر.
دخل المكتب بخفةٍ وسرعةٍ كأنّه تفاجأ بوجودي، وقف أمامي بهيبة رجلٍ من الزمن الجميل...
تأملته؛ فوجدته من أولئك الذين ترتّبت عليهم الدنيا، كلّ ما فيه مصنوعٌ بدقة، ملبسه وهندامه وأناقة حضوره، لغة حديثه، ابتسامته الوضيئة، ونظرته التي تحكي عن صفاء داخلي لا يُخفى.
كان هو الأستاذ عيسى السراج، مقرر لجنة العمل الثقافي بولاية الخرطوم، تلك اللجنة التي ضمّت كوكبةً من أعلام الفكر والثقافة والإبداع.
ومنذ تلك اللحظة، لم يغادر عيسى قلبي ولا ذاكرتي ولا مشاعري.
أحببته... لصدقه، ونُبله، وتفانيه النادر.
فتح لي قلبه قبل أن يفتح خزائن تجربته الثقافية والإعلامية، ومنحني ثقته بلا تردد، وعرّفني على الأندية والمنتديات والمجتمعات الثقافية، وكان يُراهن عليّ بفرح.
دعم مسيرتي وكتب عني وعن أنشطتي بكلمات تنضح محبة،
كنت ألاحظ كيف تنساب رائحته العطرة في مكاتبنا، وكيف تتهلل الوجوه عند قدومه، وكيف يستقبله الناس بفرحٍ كأنه عيد.
كان دقيقًا في مواعيده، رصينًا في كلماته، واسع الثقافة، جميل المعشر، حاضر البديهة، عذب العبارة.
وحين انتقلتُ لاحقًا مديرًا عامًا لهيئة الخرطوم للصحافة والنشر، كان أول الزائرين والمهنئين. جاءني كأبٍ ورفيق، وناصحٍ محب، أشعرني أن نجاحي نجاح له.
ذلك الحب الصافي بيننا، لم أكن أظن أنه مرئيٌّ للآخرين، حتى رحل عيسى، فإذا بسيل من الاتصالات والتعازي تكشف كم كان الحبل موصولًا بيننا في الله.
تشرفت مجلة "الخرطوم الجديدة" بنشر مقالاته القيّمة، عن الاستقلال، وعن كابلي، ضمن سلسلة تؤرخ لأشراقات السودان ومبدعيه.
وحين جمع أهل المريخ تاريخهم المجيد واحتاروا في أمر الطباعة، جاءني عيسى، ومعه نفرٌ كريم من رموز المريخ.
كان يعرف أنني هلالابيٌّ حتى النخاع، لكنني حين رأيته، أدركت أن الفرصة حانت لرد بعض من دينه عليّ...
وقفتُ وقلت لهم:
سأطبع الكتاب حباً وكرامة لعيسى
لحظتها اغرورقت عيناه، وعيناي...
لم تنقطع رسائله، ولا سؤاله عني وعن أسرتي.
آخر ما كتب لي، كان عن معاناته من الحرب، وما لحق به من ألم نفسي ومعنوي...
وها أنا اليوم، لا أستطيع أن أكتب عن عيسى السراج، الإنسان، المربي، الفنان، الإعلامي، من دون أن يخونني القلم، ويخذلني البيان...
ابن الكرام، وسليل المجد، وتلميذ المحبة...
ما خطر ببالي أبدًا أن الموت يمكن أن يُقيم في حضرة عيسى...
كان فكرة...
والفكرة لا تموت.
عيسى كان عطر المجالس، وبهجة الجلسات، ونضارة الوجوه...
ضيّعتُ فرصة أن أسأله عن سر ابتسامته العذبة، وضحكته الساحرة، وأدبه الجم في الاستماع...
لا يزال صوته يرنّ في أذني، بكل الحيوية التي كان يبدأ بها حديثه:
تعرف يا ماجد؟
ليتني عرفت أن الفراق قريب، لأرتوي منك أكثر، وأراك أكثر، وأحبك أكثر...
إنا لله وإنا إليه راجعون