✍ أيمن كبوش : في مقام سيد شهداء الحرف والسيف والندى

# قلت له: كان من الأقلام المحببة لأغلب شباب جيلنا الناهض، حيث جمع ما بين الكلمة السيف والمفردة الندية وكأنه يجمع الماء والنار في يدٍ عارية.. عصاميته تتبدى في سمته العام ومظهره الذي تمتزج فيه القوة والصرامة بالقلب الحنين.. عطاء يتفجر في الصفحات.. وقدرة فائقة على الانتقال الذي يجعل القارئ يلتهم السطور التهاماً ولا يمل أو يبالي.
# رهبة كبيرة تملكتني في ذلك اليوم، عندما وقع عليّ الاختيار وزميلي المصور التلفزيوني البارع (محمد السني الافندي) لأداء تلك المهمة.. حملنا امتعنتا وأدواتنا وكنا مبكراً في ذلك المبنى المهيب.. سبقتنا حركة دؤوبة عمت المكان متعدد الطوابق.. الهيبة.. الانضباط.. والغموض.. كلها عوامل تُعطي مهمتنا تلك.. طابعاً مختلفاً.. سلمنا أنفسنا لمدير مكتب المدير الذي استقبلنا ببشرٍٍ وترحابٍ لا يشبهان صرامة المكان... ظللنا في الانتظار.. والرجال يزرعون المساحات الصغيرة بين المكاتب بالحركة.. الصرامة.. الوجوه العابسة.. والصمت القاتل.. بعد ساعات طوال حضر رجلُ نحيفُ وسط حراسة أمنية مشددة.. (مُكلبش وداقينلو قيد) فلا يستطيع النهوض او الحركة الا بمساعدة اولئك الحراس الذين كانوا يرافقونه.. تركوه على الأرض ثم انصرفوا.. كان مبتسماً وكأنه لا يعابأ بما هو فيه من محنة.. ظل في مكانه ونحن نراقبه بتحفز.. بعد ساعات سُمح لنا بالدخول إلى مكتب السيد المدير حيث اجتماع منعقد.. مجموعة من السادة الضباط كانوا يجلسون خلف الاوراق، ثم بدأ التنوير الذي لم يستغرق ربع الساعة ثم التفت الينا السيد المدير قائلا: (يا رجال مرحب بيكم.. مهمتنا سرية.. وانتم معنا هنا للمساعدة في خدمة العدالة).. لم ينتظر منا رداً أو إجابة ثم أمر بالانطلاق.. أخذنا مواقعنا في المركبات استعداداً للتحرك.. وقد كان..
# كان لافتاً جدا قيام احد الافراد بأخذ الرجل الذي حضروا به مكلبشاً وكانت هناك عربة تبدو عليها آثار الإهمال وعدم الاستعمال، تحلق حولها البعض وبعد أقل من عشر دقائق أخذ أحدهم مكانه في مقودها.. تحرك ركبنا من المبني الكائن في ضاحية بري بالعاصمة الخرطوم الى منطقة كوبر.. كان هناك رتل مع العربات، وحتى تلك اللحظة نحن نجهل طبيعة المهمة.. تجاوزنا الكوبري العتيق.. وانحرفنا نحو اليسار باتجاهٍ يوازي السجن الاتحادي (كوبر) ثم اتجهنا يميناً باتجاه الشمال.. كانت محطتنا الأولى عند (بائعة شاي) كانت تجلس يمين الشارع ومن عندها تم شرح مهمتنا الصعبة والمقلقة.
# في تلك اللحظة قالها لنا اللواء شرطة (عابدين الطاهر) مدير الإدارة العامة للمباحث الجنائية الذي يعد واحداً من اشطر رجالات المباحث في الاقليم.. (سوف نقوم بتمثيل جريمة اغتيال الشهيد محمد طه محمد احمد ابتداء من الميدان الذي التقى به الجناة وعليكم بتوثيق تلك اللحظات الصعبة حيث يتم تقديم الفيديو للمحكمة ضمن وثائق وأدلة الاتهام).
# بالفعل.. كانت لحظات فارقة أمام منزل الشهيد، حيث طرق المتهم باب المنزل وفعل القدر فعلته لأن من استجاب لنداء الطارق هو الشهيد نفسه.. خطا خطوة واحدة من عتبة باب منزله فتم الغدر به وتخديره وأخذه إلى العربة (الكورونا) قديمة الموديل.. ثم عبور كوبري كوبر دون أدنى اعتراض أو اشتباه لأن العاصمة الخرطوم وقتها.. كانت من أكثر عواصم الدنيا اماناً.
# أُخذ الشهيد، حسب تمثيل الجريمة، إلى منزل في سوبا وتمت محاكمته بالاعدام وبعدها تم أخذه إلى منزل آخر في الكلاكلة شرق من أجل تنفيذ الحكم.. كل المتهمين كانوا حضورا.. يتحركون في مسرح الجريمة بما يعضد وقائع وتفاصيل الواقعة كما حدثت.. الرجل الذي احضر إلى مبنى المباحث الجنائية كان هو المتهم الأول ويدعى (صابر) تم القبض عليه في مدينة (جلهاك) بعد فر إليها وهو الذي قام بعملية ذبح الشهيد بواسطة سكين كانت حاضرة في المسرح بينما تمت عملية التخلص من الدماء في المرحاض بشهادة امرأتين أيضا تواجدتا في مسرح الحادث وتم ضمهما للبلاغ كمتهمتين.
# أعود وأقول أنه شاءت الأقدار أن أكون حضورا ايضا للحظة تنفيذ الاعدام على المتهمين في السجن الاتحادي (كوبر)، مثلما كنت شاهداً على لحظة تنفيذ الجريمة التي هزت الرأي العام، يومها أحسست براحة عظيمة لانتصار الحق وقد مثلت جريمة اغتيال الصحافي الشهيد محمد طه، تحديات كبيرة للشرطة السودانية وجهاز الأمن الذي ساهمت بادواته الفنية في مساعدة الشرطة في كشف طلاسم الجريمة.. تحملت المباحث المركزية العبء الأكبر من الإجابة على اسئلة الرأي العام وعلى رأسها اللواء شرطة (عابدين الطاهر حاج ابراهيم)، ونائبه اللواء، وقتها، بابكر سمرة مصطفى، ورجل الأدلة اللواء، وقتها، الهادي المجذوب، واللواء شرطة عبد العزيز حسين عوض الذي كان يعمل بهمة ونشاط في مسرح الجريمة، وكان هناك مولانا محمد فريد ومولانا ياسر احمد محمد.. وعدد من ضباط الأمن الوطني.. علما بان موكب تمثيل الجريمة انطلق من مبنى المباحث عقب صلاة العشاء واستمر العمل حتى الساعات الأولى من الصباح، رحم الله الشهيد الاديب (محمد طه محمد احمد)، الصحافي المختلف حرفا ورسما وعطاءً حيث شكل رحيله حدثا مدويا ومروعاً وجرحاً غائرا لن يندمل.. مثواه الجنة باذن الله.