✍ د. طارق عشيري : همسة وطنية ؛ تعيين النساء وعقلية التفكير السوداني

لا تزال قضية تعيين( النساء) في المناصب القيادية بالسودان تواجه عقبات ذهنية أكثر من كونها قانونية. فالعقلية السودانية التقليدية كثيرًا ما تنظر إلى المرأة من زاوية اجتماعية ضيقة، تحدد دورها في الإطار الأسري، وتغفل عن قدراتها العلمية والإدارية. لكنّ التجربة أثبتت أنّ المرأة السودانية تمتلك الكفاءة والقدرة على الإبداع في مختلف المجالات، من الطب والتعليم إلى الإدارة والسياسة. ومع تغيّر الوعي المجتمعي بعد الحرب وتحوّل القيم الوطنية نحو العدالة والمواطنة، بات من الضروري إعادة النظر في هذه العقلية القديمة، وإفساح المجال أمام النساء ليكنّ جزءًا فاعلًا في عملية إعادة بناء السودان، لا كمجرد رمز للتجميل السياسي، بل كشريكات حقيقيات في صنع القرار وصياغة المستقبل.
ظلّ المجتمع السوداني، عبر تاريخه الطويل، يعيش بين الأصالة والانفتاح، بين التمسّك بالعادات الموروثة والرغبة في التطور ومواكبة العصر. ومن أكثر القضايا التي تعكس هذا الصراع هي نظرة المجتمع إلى تعيين المرأة في مواقع المسؤولية. فبينما تتقدّم نساء العالم في السياسة والاقتصاد والإدارة، لا تزال بعض العقول السودانية تتعامل مع المرأة بعقلية الوصاية لا الشراكة، وكأنّها مخلوق خُلِق ليُتَّبع لا ليقود.
تاريخ النساء السودانيات زاخر بالنماذج المشرفة؛ فقد كانت المرأة في الريف والحضر عماد الأسرة ومحرّك الاقتصاد المنزلي، وساهمت في التعليم والصحة والعمل العام منذ فجر الاستقلال. غير أنّ عقلية التفكير السوداني –المتشبعة بثقافة الذكورية– ما زالت تضع العراقيل أمام تمكينها في مواقع صنع القرار.
الكثيرون ينظرون إلى تعيين المرأة كـ"منحة" أو "ترضية سياسية"، لا كحق مستحقّ، وهو ما يقلّل من قيمتها ودورها الحقيقي. لكن الواقع أثبت أن النساء اللواتي تولّين مواقع تنفيذية وإدارية، أثبتن كفاءة عالية في الأداء، ونجحن في إدخال روح جديدة من التنظيم والانضباط في المؤسسات التي قُدنها.
إنّ تغيير عقلية التفكير تجاه المرأة لا يتحقق بالشعارات فقط، بل يتطلب إصلاحًا تربويًا وثقافيًا وإعلاميًا يبدأ من البيت والمدرسة، ويُغرس في النفوس أنّ الكفاءة لا تُقاس بالنوع، بل بالعطاء والقدرة على القيادة. فالسودان اليوم، وهو يمرّ بمرحلة إعادة البناء بعد الحرب، يحتاج إلى كلّ أبنائه وبناته، دون استثناء أو تمييز، لبناء وطن يتسع للجميع.
لقد حان الوقت أن نتجاوز مرحلة النظرة الضيقة للمرأة، وأن نكسر قيود العقلية القديمة التي كبّلت المجتمع لعقود. إنّ تمكين المرأة السودانية ليس ترفًا، بل ضرورة وطنية لمستقبل أكثر عدالة وازدهارًا. فالوطن الذي لا يُنصف نساءه، لا يمكن أن ينهض برجاله. وسودان مابعد الحرب اقوي واجمل